احتاج الأمر يومها إلى الانتظار ثلاث سنوات بعد رحيل الكاتب والسينمائي الفرنسي مارسيل بانيول لـ"تكتشف" وتُنشر في عام 1977 رواية له من الواضح أنه لم يستكملها أبداً. وربما يعود سبب ذلك إلى أنها أرعبته وبدت له حين كتبها خارجة عن السياق العام لأدبه وسينماه اللذين اتسما بالبحث عن السعادة وبالعمل على إيجاد حلول ناجعة وسعيدة لمنغصّات العيش. فما الذي كان يمكن أن تفعله رواية عكف على كتابتها ذات يوم، عن الطاعون الذي اجتاح مدينته مرسيليا في عام 1720؟
ومع هذا فإن الرواية تتسّم بطابع يكاد يكون هزليا، وليس بسبب الوباء نفسه، بل بسبب العقلية التي يصورها بانيول، حيث تدور الأحداث في ظل الوباء الأسود الذي يهاجم المدينة فيقرر جماعة من سكانها يعيشون في منطقة بدت لهم أكثر تعرضاً للوباء أن يحموا أنفسهم جاعلين من حيّهم قلعة حصينة مغلقة على أي غريب. وها هم يعيشون الآن فيما بينهم تحت قيادة الطبيب المعلّم بانكراس وكاتب العدل المعلم باساكاي اللذين يعينان نفسيهما مسؤولين عن أمن السكان وصحتهم. وذلك لأنه فيما ينظم هؤلاء أنفسهم للوقاية من انتشار الداء سواء أتحرّك فيما بينهم أو أتاهم من الخارج الذي يجدر بهم الحيلولة دون تسربه إليهم، يتوجب عليهم في الوقت نفسه أن يحموا أنفسهم من اللصوص والجائعين الذين استشروا ساعين للاستحواذ على كل ما يمكنهم الاستحواذ عليه في غياب سلطة الدولة.
بيد أن الطبيب وكاتب العدل لن يسمحا بذلك، بل سينظمان نوعاً، ولو ساذجاً، من الدفاع الذاتي، وهو ما يخلق، وربما على طريقة أعضاء نادي بيكويك في رواية شهيرة للإنجليزي تشارلز ديكنز، نوعاً من سلطة صارمة، لكن الاثنين يرتكبان من الحماقات ويعايشان من سوء تصرف السكان الذين وضعوا أنفسهم في تصرفهم، بأسوأ مما كان من شأنهما أن يعانيا لو أنهما تركا الأمور على سجيتها. أو هذا ما يقوله أحدهما للآخر ذات لحظة يأس وقلق. وكما يحدث مع "كورونا" في أيامنا هذه حيث تقوم الوقاية الأساسية ضدّه من خلال اللجوء إلى المطهرات وخصوصاً المواد الهلامية الكحولية، يتوصل الطبيب بانكراس إلى تصنيع خلّ مطهّر يُطلق عليه اسم "خلّ اللصوص الأربعة"، ولكن من ذا الذي يمكنه أن يقنع أهالي ذلك الحي في مرسيليا بأن هذا السائل صُنع للتطهير وليس للشرب بدلاً عن نبيذ بات يصعب الحصول عليه؟
وصيّة فنان يحب الحياة
بمثل هذه المواقف عرف مارسيل بانيول على أية حال، كيف يستعيد في رواية يُفترض أنها تاريخية وكارثية، عوالمه المرحة وأجواء مدينته المحببة مرسيليا محوّلاً الكارثة إلى نوع من حالة هذيان ومرح، لعله، في رأي الكاتب، يتبدى نوعاً من ترياق حقيقي في وجه المعاناة العامة.
صحيح أن بانيول لم يتمكن من إنجاز الرواية، لكنه عرف في نهاية الأمر كيف يجعلها، حتى بالشكل الناقص الذي انتهت إليه، نوعاً من وصية مبدع كان همه الأول من الكتابة أن يبعث الحياة في أفئدة قرائه ويدلهم إلى طريق السعادة. وهو بالتأكيد فعل ذلك رغم كارثية الأحداث التي أصابت حقاً تلك المدينة وتحديداً في عام 1720. ترى هل لهذا الرقم أن يذكّرنا بشيء ما؟
مهما يكن لا بد من التوقف هنا عند هذا الكاتب والسينمائي الفرنسي الفذ لنشير إلى أنه حين رحل عن عالمنا، في عام 1974، أي في العام نفسه الذي كان منكبّاً فيه على إنجاز "المصابون بالطاعون"، كانت أعماله كما شخصيته قد كفّت عن أن تكون "على الموضة"، وكان كثر من أهل الحداثة والمعاصرة ينظرون إليه باعتباره فناناً "رجعياً" ذا أفكار وأساليب لا تناسب العصر. وكان هو نفسه قد ركن إلى تلك الفكرة منذ زمن وجلس يرقب مسيرة الفنون والآداب من حوله مكتفياً بما تبقى له من مجد قديم، وبعضويته في الأكاديمية الفرنسية، غير راغب حتى في مجادلة من كانوا ينظرون إليه باعتباره قد أضحى كاتباً متحفياً ينتمي إلى ماضي فرنسا لا إلى حاضرها.
بعد عشر سنوات
ولكن، ما أن انقضت على ذلك الرحيل عشر سنوات، حتى عاد مارسيل بانيول، ليعتبر حديثاً ومعاصراً، وعادت كتبه تباع بمئات ألوف النسخ. كان يكفي لذلك فيلم واحد، تبعه جزء تالٍ، اقتبسه مخرج فرنسي حصيف عن رواية لبانيول عنوانها "جان لا فلوريت" حتى تنقلب الأمور رأساً على عقب: تدفق الملايين لمشاهدة الفيلم، وراحت دور النشر تتفنن في إصدار طبعات جديدة من الرواية ثم من روايات بانيول الأخرى، وتلا "جان لا فلوريت" فيلم "مانون النبع"، ثم عمد مخرج آخر إلى تحقيق فيلمين تاليين عن روايتين أخريين لبانيول هما "قصر أمي" و"مجد أبي". وسريعاً صار مارسيل بانيول، بعد عقد على رحيله سيد الأدب الفرنسي من دون منازع، و"اكتشف" الكثيرون أن أدبه أدب معاصر، يلامس الكثير من القضايا المعاصرة، لا سيما قضية البيئة، وعلاقة الريف بالمدينة، والعلاقات البشرية وسمو العواطف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى هذا النحو مكنت السينما الحديثة بانيول من تحقيق ثأر لم يكن قد خطر في باله، على أي حال، هو الذي كانت السينما الأميركية نفسها قد كرمته قبل عقود حين اقتبست من ثلاثيته المارسيلية الشهيرة حكاية "فاني" لتقدمها في فيلم أميركي حقق نجاحات كبيرة في أواخر الستينيات.
بهذا المعنى وبغيره يمكننا القول إن مارسيل بانيول، المولود عام ولادة السينما، أي في سنة 1895 كان على الدوام، ولا يزال حتى اليوم، واحداً من أوائل وأهم الكتاب الذين أدركوا ضرورة الربط بين السينما والأدب، فهو منذ اكتشف فن السينما الناطقة، عند نهاية عشرينات ذلك القرن، وأولع بها، وحوّل نفسه من كاتب مسرحي إلى كاتب سينمائي، ثم بعد ذلك إلى مخرج سينمائي، قائلاً، إن السينما الناطقة فن يمكّن الأدب الروائي (والمسرحي) من أن ينتشر انتشاراً كبيراً بين أوسع قطاعات الناس، إضافة إلى أن فن السينما يتميز عن فن المسرح بقدرته، عبر اللقطات الكبيرة تحديداً، على سبر أغوار النفس البشرية.
روح إيجابية
كان بانيول في بداية حياته العملية أستاذاً للغة الإنجليزية في الجنوب الفرنسي، ثم بدأ يكتب مسرحيات محلية تعبر عن حياة الجنوب والريف بشكل عام. وهو حين انتقل إلى باريس العاصمة بعد ذلك فوجئ بأن مسرحياته معروفة ومستساغة، في الوقت الذي اكتشف فن السينما فغرق فيه كلياً، كاتباً ومنتجاً ثم مخرجاً، معتمداً على ممثلين كبار اصطحب بعضهم معه من الجنوب، بينهم ريمو وفرنانديل. والحال أن الأفلام التي اقتبست من رواياته وتحدثت كلها بلكنة الجنوب الفرنسي الطريفة والمحببة، لقيت نجاحاً كبيراً حيثما عرضت، وكان من أبرزها "ماريوس" (1931)، و"فاني" (1932)، و"توباز" (1932)، وهو لم يخرج أياً منها على أي حال. وبعد ذلك فقط سيتحول إلى الإخراج عبر أفلام لم تلق نجاح الأفلام الأولى، وإن كانت أكدت قدرة السينما على خدمة العمل الأدبي.
ورغم علاقة مارسيل بانيول بالسينما، فإن الفرنسيين نظروا إليه أولاً وعلى وجه الخصوص باعتباره كاتباً ريفياً كبيراً، نقل إلى العاصمة وإلى عامة القراء حياة الريف وعاداته، وهو أمر يستسيغه اليوم أنصار البيئة الذين يمجدون بانيول تمجيداً كبيراً، وخلص الأدب الفرنسي من حذلقته المدينية السائدة.
وبانيول، بصفته أديباً لا بصفته سينمائياً انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية ومجد تمجيداً رسمياً وشعبياً كبيراً عند أواسط ذلك القرن، وهو لئن كان قد توفي وسط شيء من الصمت كما أسلفنا، فإن فرنسا لا تزال تستعيد ذكراه بين الحين والآخر متسائلة بدهشة عن سر ذلك القدر الكبير من البراءة والنقاء الذي طبع أعمال كاتب عاش كل شرور القرن العشرين وتقلباته من دون أن يفقد إيمانه بالإنسان، وهو ما يمكن أن تفعله اليوم أيضاً حيث تُستعاد روايته الكارثية هذه ويمكن أن تُقرأ بذهنية إيجابية.