في حين لا يزال العالم يرزح تحت التداعيات الصحيّة والنفسيّة والاقتصاديّة لانتشار وباء كورونا (كوفيد-19) الذي حبس قرابة نصف سكّان الكوكب في منازلهم، هناك مَن يسعى إلى توظيفه في دراما سينمائية وترفيه بصري. هذا ما يفعله الفيلم الذي أنجزه للتو المخرج الكندي من أصل إيراني مصطفى كشواري (33سنة) وسمّاه بكل بساطة "كورونا"، وبات إعلانه الترويجي متوفراً على الإنترنت منذ أيام قليلة. عادةً، أي حدث مثل هذا يلقي بظلاله على العالم يحتاج إلى أن يختمر في رأس كتّاب السيناريو قبل أن يصبح صالحاً لمادة فنية، الأمر الذي لم يعنِ لكشواري شيئاً، فانكب على مشروعه من دون أن يقيم أي وزن لعامل الوقت وحتى قبل أن تتوضح كلّ خصوصيات الفيروس المنتشر. هل سعى إلى ركوب الظاهرة والاستفادة منها للترويج لنفسه ولمنتوجه الفني، كونه يعلم جيداً أن عدداً من الصحف سكتبت عنه؟ سؤال يصعب الإجابة عنه قبل مشاهدة الفيلم بالكامل، علماً أنه من المتوقع أن يستلهم هذا الوباء العديد من الأعمال الفنيّة، سواء في السينما أو التلفريون والأدب، في الأشهر والسنوات المقبلة.
يمكن الجزم أن "كورونا" هو أول فيلم عن الوباء الذي أصاب إلى اليوم أكثر من مليون شخص حول العالم وتسبب بوفاة أكثر من 50 ألفاً. استخدم كشواري تقنية اللقطة الواحدة لتصوير مجموعة من الناس عددهم سبعة حُشروا في مصعد موبوء يكتشفون أن أحد الموجودين فيه مصاب بالفيروس. إلا أن الأشياء لا تنتهي عند هذا الحد. يستخدم السيناريو الكورونا ليقول ما لديه عن الكثير من الأمراض التي تعاني منها المجتمعات الغربية قبل اجتياح الكورونا لها. وفي مقدّمة هذه الأمراض: العنصرية المعطوفة على الخوف من الآخر. فمن خلال شخصيات عدة تمثّل نوعاً ما شرائح اجتماعية مختلفة، يقدّم الفيلم استعارة. نرى سيدة من أصول آسيوية تسعل في كابينة المصعد، أمام ستّة أشخاص آخرين يشعرون على الفور بالخوف والهلع. بين هؤلاء الستّة، رجل مقعد وشم على جبينه علامة الصليب المعكوف، وسيدة حامل. ما طمح إليه المخرج هو دس أشخاص في زمن ومكان واحد ليرى ماذا سينتج من هذا الدس على الصعيدين الدرامي والأخلاقي، انطلاقاً من نظرية أن الإنسان يخرج أسوأ ما في داخله في لحظات الخوف متى شعر بالتهديد. بهذا المعنى، الفيلم ينطوي على نقد اجتماعي يظهر كيف أن البعض يكبت مشاعره السلبية تجاه الآخرين ليفرج عنها في لحظة ضعف. ذلك أن كثراً في الغرب يكونون على قدر من العنصرية ولا يعبّرون عنها، خشية من القوانين أو مراعاةً لصورتهم الاجتماعية. لهذا، يضع الفيلم كلّ هؤلاء في فخّ ليفضح نيّاتهم ويري ما في دواخلهم.
في مقابلة مع "نيويورك تايمز"، يقول كشواري إن فيلمه هو "مراقبة" للمجتمع والناس وخياراتهم الأخلاقية. يتأسف على صعود العنصرية وخطاب الكراهية في كندا بعد انتشار الأخبار التي تفيد أن الفيروس يأتي من الصين. اعتداءات لفظية عدة سُجِّلت في هذا الصدد ضد أشخاص من أصول آسيوية، علماً أن بعض هؤلاء ليس حتى من الصين، بل من بلدان أخرى من شرق آسيا. يقول كشواري إن الناس ما كانت لتصدّق أن فيروساً كهذا قد يصيب الرجل الأبيض، ولكن الوباء لا يميّز بين الأعراق والجنسيات والأديان.
ضغط نفسسي
باشر كشواري بتأليف السينايو في أواخر يناير(كانون الثاني) من العام الحالي. طرقت الفكرة باله وهو في المصعد يطالع مانشيتات الصحف الصادرة في صباح ذاك اليوم. تحرّك بسرعة. استغرقت الكتابة أسبوعين، في حين تطلّب بناء ديكور سبعة أيام. أمّا الممثّلون فاختارهم من خلال الترويج في محيطه بأنه يبحث عنهم. اشتغل كشواري بموازنة محدودة جداً، فلا شركة إنتاج كبيرة تقف خلفه ولا مموّل يمد له يده الكريمة بلا مقابل. هو في النهاية مخرج مستقل يعمل خارج المنظومة السينمائية. ويبدو أن ضيق الموازنة المرصودة والشعور بالضرورة في إنجاز الفيلم، ساهما في إشاعة جو من الضغط النفسي والقلق الذي هيمن على العمل. في ثلاثة أيام فقط، التقط المخرج المَشاهد، ويروي إنه أعاد 70 مرة اللقطة الواحدة كي يصل إلى نتيجة ترضيه، مصرّاً على تقنية اللقطة الواحدة كي يمدّنا بإحساس الزمن الفعلي لا المقطّع. كيف توصّل إلى هذا بوقت قياسي؟ يقول إنه طلب إلى الممثّلين أن يتخيلوا بأن الفيروس يتجوّل في الأجواء فوق رؤوسهم في تلك المساحة المقفلة للمصعد، ممّا خلق حالة من الرعب.
يروي كشواري بأن الوباء كان أخذ بالتفشي في جميع أنحاء العالم عندما كان هو وفريق العمل الذي بلغ عددهم الـ25 شخصاً، يصوّرون الفيلم في ظروف شبه طبيعية. إلا أن لا أحد منهم كان ليتخيل أنه قد يشكّل في غضون أيام تهديداً دولياً بسبب تنقّله من قارة إلى قارة معطلاً دورة الحياة بأكملها. يومها، لم تكن الدولة الكندية قد أعلنت بعد حال الطوارئ وضرورة الالتزام بالحجر الصحي، ممّا سهّل عملية التصوير.
يتمنّى كشواري لو أتيح له المجال ليعرض فيلمه في المهرجانات، ولكن مع إلغاء بعضها وتأجيل بعضها الآخر، قد لا يحقق حلمه في القريب العاجل. يبقى أن منصّات العرض هي المكان الأنسب لهذا النوع من الإنتاجات التي تأتي في سياق معين، وقد يسقط من الذاكرة عند عودة الحياة إلى طبيعتها ورغبة المشاهدين في نسيان هذا الفصل المأسوي من تاريخهم وطي الصفحة إلى الأبد. إلا إذا استمر الوباء فترة طويلة وحصد المزيد من الضحايا وطبع وجدان أجيال كاملة، كما فعلته سابقاً الحروب والأزمات الاقتصادية. حينئذ، لا شيء يمنع من تحوّل الفيلم إلى وثيقة تروي للأجيال القادمة ما نعيشه اليوم.