لدى صدور رواية "إرث جواسيس" (2017) للكاتب البريطاني جون لو كاريه، لامه المدير السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية (MI6)، ريتشارد ديرلوف، لـ "عدم سرده في رواياته سوى قصص خيانات تحدث دائماً داخل هذا الجهاز"، مضيفاً أن "معظم ضباط الاستخبارات في وطنه غاضبون عليه". ولا شكّ في أن ديرلوف وزملاءه سيفقدون صوابهم إن قرأوا روايته الأخيرة، "جاسوس ناشط في الميدان" (دار "بنغوين")، لأن موضوعها الرئيس، مرةً أخرى، هو الخيانة.
مهما كانت الأسباب التي تقف خلف خيار لو كاريه هذا، فإن تمسُّكه بالموضوع المذكور سمح لرواياته بأن تكون بمثابة دليل للأعراف المتغيّرة في بريطانيا خلال العقود الستة من مسيرته الكتابية. ولا عجب في ذلك، فمَن قرأ هذه الروايات يعرف مدى أهمّيتها على هذا المستوى، كما يعرف أن "أجهزة استخبارات أي بلد هي مرآة للاوعيه"، كما يقول الكاتب على لسان شخصيته بيل هايدون في "سمكري، خياط، جندي وجاسوس" (1974).
الخيانة في "جاسوس ناشط في الميدان" تحدث خلال فترة "بريكست" الراهنة التي قاربها لو كاريه بشكلٍ خاطِف في "إرث جواسيس" عبر دفع الشخصية المركزية في رواياته، جورج سمايلي، لتقول في خاتمتها: "كل الأشياء الجيدة التي أنجزتُها خلال مسيرتي الاستخباراتية أنجزتها باسم أوروبا وليس بريطانيا". لكن هذه المرة، يعتمد الكاتب مقاربة مباشرة لـ "بريكست" عبر حصر زمنية أحداث روايته الجديدة في العام 2018، وتحديداً عشيّة زيارة الرئيس الأميركي الأولى لبريطانيا، ساعياً من خلال ذلك إلى إظهار كيف بات وطنه، بسبب هرولة مسوؤليه المحموم خلف اتفاقات تجارية مع بلاد العم سام، على قاب قوسين من أن يصبح خادم دونالد ترمب المطيع. وبما أن هذا الأخير متواطئ، في نظره، مع صديقه فلاديمير بوتين في مؤامرة زعزعة أوروبا للسيطرة عليها، لا عجب إذاً في الخيانة التي يتخيّلها لو كاريه داخل جهاز الـ MI6.
بطل الرواية، نات، هو رجل بريطاني في سن السابعة والأربعين ينتمي إلى جهاز الاستخبارات الخارجية لوطنه. لكن بعد 25 عاماً من الخدمة جنّد خلالها جواسيس مزدوجين في مختلف أنحاء أوروبا الشرقية، نراه يتحضّر بمرارة لاحتمال أن يدفعه مسؤولو هذا الجهاز إلى "التقاعد". لكن بدلاً من ذلك، يعرضون عليه ترؤُّس محطة استخبارات صغيرة في لندن تضطلع بإدارة منشقّين ومخبرين روس مستقرّين في بريطانيا. وبما أن لا أفق آخر أمامه، يقبل عرضهم.
نات أوروبي في قناعاته وثقافته، وغاضب من رضوخ وطنه للمصالح المالية الداخلية والدولية، وقلِق من عودة روسيا كقوة عظمى إلى الواجهة. وفي هذا السياق، يعتبر أن هذا البلد انتصر اليوم على الغرب، وبريطانيا تحديداً، كما يشهد على ذلك تملّك أثريائه المدعومين من الكرملين أثمن العقارات في لندن، والهبات الضخمة التي يقدّمونها للمسؤولين السياسيين البريطانيين مقابل غضّ النظر عن "غسل" أموالهم الوسخة في مصارف الـ "سيتي" اللندنية. ولذلك، نراه على طول الرواية يتساءل حول جدوى إقناعه في الماضي كمّاً من الأجانب بالتجسس لصالح بلده، على ضوء جنون "بريكست". لكن غضبه هذا يبقى رقيقاً مقارنةً بغضب صديقه الشاب إد الذي يعمل في الظاهر لوسيلة إعلامية ويلعب معه بانتظام رياضة تِنس الريشة (badminton)، لكنه مهووس بالصراعات الجيوسياسية، بـ "الفاشية" الجديدة التي يجسّدها دونالد ترمب، وبنتائج اتفاق "بريكست". هوس سيقوده إلى سلوك لا يلبث أن يجلب متاعب له ولصديقه على حد سواء.
جاسوس في الميدان
في "جاسوس ناشط في الميدان"، سنتابع وقائع عملية تجسّس روسية واسعة النطاق في لندن، سنرافق نات في سفر مثير إلى تشيكيا لكشف من يقف خلف هذه العملية وأهدافها، وسنحضر عملية الاستجواب المرعبة التي يتعرّض لها لدى عودته إلى وطنه وتدفعه إلى مراجعة كل حساباته وإلى التخطيط لعملية أخيرة لن نفسد على القارئ متعة اكتشافها بنفسه. لكن قيمة هذه الرواية لا تكمن في الأحداث المذكورة وتطوّراتها المشوِّقة بقدر ما تكمن في نثرها الصائب والأخّاذ الذي يتأقلم بشكلٍ حاذق مع صوت راويها الغاضب. تكمن أيضاً في جاذبية شخصياتها التي لا تقتصر على نات وإد، فلدينا أيضاً فلورانس، الشابة الجميلة وزميلة نات اللامعة في ميدانها، والمحامية برو، زوجة نات، التي تعمل في مجال حقوق الإنسان وتنشط لفضح الممارسات الخطيرة لشركات الأدوية الكبرى، من دون أن ننسى الجاسوسة الروسية المخيفة والفاتنة أناستازيا.
ومن هذا المنطلق، أكثر من مجرّد رواية تجسّس، "جاسوس ناشط في الميدان" هي عمل أدبي آسِر خطّه لو كاريه على شكل صكّ اتهام مُوجَّه لأكثر من جهة: لعالمنا اليوم الذي باتت تتحكّم به مصالح الشركات المالية الكبرى، لروسيا بوتين التي "لا تسير إلى الأمام نحو مستقبلٍ واعد، بل إلى الوراء نحو ماضيها المعتِم"، وخصوصاً لبريطانيا ومسؤوليها السياسيين الحاليين الذين يغازلون بلا خجل الرئيس ترمب الذي يصفه أحد جواسيس نات السابقين بمرارة كـ "منظِّف دار بوتين النتِنة" وذلك الذي "يفعل لفلاديمير كل ما لا يمكن فلاديمير أن يفعله بنفسه".
ولن نفاجأ إن احتدّ غضب ريتشارد ديرلوف وسائر ضباط الاستخبارات البريطانية لدى قراءتهم هذه الرواية، فكاتبها ينتقد فيها أجهزتهم الأمنية عبر تصويرها كمؤسسات ينخرها التنافس السلبي في ما بينها، ويميل مسؤولوها دائماً إلى إبعاد أصحاب الكفاءات وترقية معدومي الأهليّة والفاسدين. وهو ما يقودنا إلى السؤال المركزي الذي يوجّه نثر هذه الرواية وسرديتها، ويمكن صوغه على النحو الآتي: كيف يمكن لمَن كرّس حياته لخدمة وطنه البقاء على نزاهته حين لا تعود مؤسسات هذا الوطن تعمل من أجل المصلحة العامة، بل من أجل المصالح الخاصة والمشبوهة؟
باختصار، "جاسوس ناشط في الميدان" بورتريه قارص ودقيق لبريطانيا اليوم، ولزمننا المعتِم عموماً. وفي ذلك، تمثّل شهادة جديدة على أهمية كاتب لا يشكّل فقط أحد أهم مؤرّخي عصرنا وأكثرهم بصيرة، بل أيضاً إحدى الأصوات الأدبية النادرة التي تجرؤ على قول الحقيقة لأصحاب السلطة، أينما كانوا.