لم تكن الصحافة السودانية استثناءً في التطورات التي ألمت بصناعة الصحافة في العالم إثر تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19)، ولكن تأثرها جاء متأخِّراً لأسباب عدة هي أنَّ الفيروس وصل متأخِّراً إلى السودان، وثانيها اعتماد السودانيين على الصحف بشكلٍ أكبر من المواقع الإلكترونية.
"اندبندنت عربية" تواصلت مع رؤساء تحرير بعض الصحف السودانية، أوضحوا الأعباء الإضافية التي فرضتها جائحة كورونا، بالإضافة إلى الأزمات وما أدت إليه من تقليص حجم المطبوع من الصحف الورقية المستمرة، واتخاذ بعض الناشرين قرار إيقاف صحفهم حتى إشعارٍ آخر.
أعباء قديمة
لم تكد الصحافة في السودان تتخلَّص من آثار التضييق الذي فرضه عليها نظام عمر البشير حتى وجدت نفسها وسط أزمة كورونا. فعامٌ واحد وبضعة أشهرٍ بعد الثورة لم تستطع محو حقبة من المعاناة لا تقلّ عن معاناة المواطنين اقتصادياً وسياسياً. ويكمن جوهر المشكلة في أنَّ الصحافة سُجنت تحت سقفٍ سُميَّ هامش الحريات حددّته الحكومة السابقة. هذا السقف لا يفسح المجال لأي تعبير، فضلاً عن أنه ينسف قول المؤرخ البريطاني توماس ماكولاي المتوفى عام 1859 الذي اتخذه الصحافيون السودانيون شعاراً لأكثر من نصف قرنٍ من الزمان، "إنَّ المقصورة التي يجلس فيها الصحافيون أصبحت السلطة الرابعة في المملكة المتحدة".
وسبق أنَّ صنَّفت منظمة "مراسلون بلا حدود" التي تراقب أوضاع الحريات الصحافية في العالم ومقرها باريس، السودان في المرتبة 174 من بين 180 دولة شملها تقريرها لعام 2017 عن أوضاع حرية الصحافة. بعد ذلك دُشِّنت عشرات الصحف الإلكترونية، بينما كان جهاز الأمن والمخابرات يصادر نسخ الصحف المطبوعة التي تحتوي على مواد تنتقد النظام أو الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد.
تعوَّد الناشرون ورؤساء تحرير الصحف على ذلك الوضع الذي سُيِّر وفق قوانين وضعتها الحكومة السابقة التي كانت تسيطر على 60 في المئة من سوق الإعلان. كما أُطِّرت العلاقة بين الصحافة والحكومة السابقة والأعباء المالية الملقاة على كاهل المؤسسات الصحافية مثل سحب الصحف من المطبعة وإيقافها كعقوبة، كبَّدت ميزانيات الصحف مبالغ طائلة، إذ لم يكن من السهل إقناع العقلية الجبائية والانتقامية بأنّ ما تنتهجه من أسلوب عقابي لم يسبقها عليه أحد في أشدّ عصور التاريخ ظلامية.
تغيَّر الوضع قليلاً في ظلِّ الحكومة الانتقالية، ولكنها لم تستطع ردم هوة الثقة والمواقف العدائية بين الصحافة والسلطة السابقة، ولم يولد إطار ينظم العلاقة بينهما، ومن صميمها تأتي حرية الصحافة والتعبير.
مواجهة جديدة
أضاف تفشي فيروس كورونا مزيداً من الأعباء على الصحافة السودانية ودخلت منعطفاً جديداً. ربما يجيء السودان من أواخر الدول التي تأثَّرت صحافتها بأزمة كورونا، فما زال بعض القرَّاء يتصفحونها بأشكالٍ مختلفة، ولم تستطع الصحف الإلكترونية سحب البساط من تحت أقدامها، ولم تتوقَّف نتيجة لحزمة الإجراءات الاحترازية الجديدة لمنع تفشي الفيروس بإعلان منظمة الصحة العالمية نقله عبر ملامسة الأسطح وما يمكن أن تشكِّله المطبوعات من خطرٍ محتملٍ على الصحة العامة في هذه الظروف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن، خلال أيامٍ معدودة، كانت الصحافة من ضمن القطاعات التي شهدت هزَّات سريعة أدت إلى تقليص عدد المطبوعات وتخفيض أعداد الصحافيين والعاملين. وجاء ذلك نتيجة مباشرة لانخفاض عوائد الإعلانات وصعوبات عمليات الإنتاج نتيجة حظر التجوال والقيود المفروضة على المؤسسات الحكومية والخاصة والأنشطة التجارية والرياضية والثقافية.
ولم يُتخذ إجراء رسمي لغلق منافذ بيع الصحف (الأكشاك)، ولكن أُغلق معظمها بطريقة تلقائية نتيجة التداعيات. كما أنَّ الأثر الاقتصادي كان دافعاً أقوى من الأثر الصحي، خصوصاً أنَّ أغلب قراء الصحف الورقية من كبار السن.
وضع قاتم
يقول محجوب عروة رئيس تحرير صحيفة "السوداني الدولية"، في حديث مع "اندبندنت عربية"، إنَّ "التأثير في الصحف السودانية كان بسبب ارتفاع سعر الورق نسبة إلى انخفاض قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار. ما أدى إلى ارتفاع تكلفة إصدار الصحف".
ويكشف أن مبيعات صحيفته انخفضت إلى النصف بسبب غلق العاصمة نسبةً للاحترازات الصحية، وفقدان التوزيع في ولايات السودان التي يشكِّل نصيبها 30 في المئة من التوزيع.
وإذ يتجنب الإجابة عن سؤال إذا ما الصحافة ستعود إلى ما كانت عليه في القريب العاجل بسبب ضعف الإعلان بنسبة 70 في المئة، يتوقَّع أن تصدر الصحف بنسبةٍ أقل مما كانت عليه.
أما عطاف محمد مختار نائب رئيس تحرير صحيفة "السوداني" فيذكّر، في حديث مع "اندبندنت عربية"، بوجود أزماتٍ سابقة لكورونا تعاني منها الصحافة السودانية وهي التي مهَّدت إلى ضعف الصحف في ظلِّ تفشي كورونا. ويشير إلى أنَّ الأكشاك والمكتبات المسؤولة عن التوزيع تفتقر إلى التخطيط وإعادة التأهيل، فقد تم إنشاؤها في عهد حكم الفريق إبراهيم عبود في بداية ستينيات القرن الماضي، وكانت الخطة السكانية والانتشار العمراني محدوداً في ذلك الوقت. أما الأمر الآخر فقد عملت الحكومة السابقة على هدم أكثر من 1500 مكتبة في الخرطوم وحدها، ما أثَّر بشكلٍ مباشر في توزيع الصحف.
ويلفت مختار إلى أنه "لا يوجد جسم موحَّد ومتكاتف للناشرين، يتدخَّل في مثل هذه الأزمة وحل المشاكل عموماً، بل هناك حرب بين الناشرين تخلو من روح المنافسة الإيجابية. ولا توجد مناهج علمية جديدة لتطبيقها في آلية التوزيع، فلم يستفد السودان من تجارب دول الجوار وأقربها مصر في كيفية التوزيع والانتشار والوصول إلى آلياتٍ مشتركةٍ لخروج أزمة الصحف من عنق الزجاجة".
يتابع "الآن حدثت انتكاسة كبيرة في التوزيع، وهي مواصلة للانحدار السابق الذي بدأ قبل كورونا. ونسبة التوزيع في آخر ثلاث سنوات آخذة في الانحدار المتواصل بسبب الضائقة الاقتصادية وارتفاع كلفة الطباعة ومدخلاتها المستوردة بكاملها التي نقوم بشرائها بالدولار (140 جنيهاً سودانياً) الذي يواصل ارتفاعه مقابل الجنيه السوداني. ولذلك تتضاعف أسعار الصحف".
يضيف أن "أولويات المعيشة فرضت نفسها على المواطن السوداني، فبدلاً من شراء صحيفة بـ20 جنيهاً تكون أولويته شراء كيس من الخبز".
ويكشف أنَّ التدهور مريع، خصوصاً في أزمة نقل الصحف إلى ولايات السودان المختلفة. قبل أزمة كورونا، كان شحن الصحف في تمام السادسة صباحاً في الباصات المتجهة إلى الولايات. أما في حظر التجوال وغلق معظم المحال فقد فقدت الصحف توزيعها الأكبر في الوزارات والمؤسسات الحكومية والجامعات والمكتبات.
آثار مستمرة
يتفق صلاح حبيب رئيس تحرير صحيفة "المجهر السياسي" مع الإفادتين السابقتين، موضّحاً لـ"اندبندنت عربية" أن "تأثُّر الصحافة الورقية وانخفاض كمية المطبوع بدآ قبل كورونا بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار وتكلفة الطباعة، ثم جاءت أزمة كورونا وأدت إلى تراجع العدد فى كل الصحف.
يضيف حبيب "تأثرت الصحافة الورقية فى البداية بوسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية لسرعة نقل المعلومة والخبر، ولكن نظراً لعدم صدقية كثير من المعلومات الواردة فى تلك الوسائل، ظلَّت الصحافة الورقية هي المرجع الأساسي للقرّاء لاستقراء المعلومات والتأكد من صحتها. ومن كان يطبع عشرة آلاف نسخة تراجع إلى خمسة آلاف، ومن كان يطبع خمسة أصبح يطبع ألفي نسخة، وهكذا".
ويذكر أنَّ "بعض الصحف تطبع لتحافظ على اسمها فحسب، ولكن الخسارة واردة في كل الأحوال".
ولا يتوقَّع حبيب ارتفاع كمية المطبوع بعد أزمة كورونا، "لأنَّ آثارها ستظلّ قائمة لبعض الوقت، بالإضافة إلى ما تعانيه الصحافة في الأساس من ضائقة وما يتعرَّض له الناشرون من خسائر".
وفي السياق يبدي مواطنون سودانيون تذمّرهم من فقدانهم الصحف الورقية، فما زالوا يتردّدون على أكشاك الصحف صباحاً قبل بداية موعد الحظر، ولكن لا يجدونها لمحدودية الطباعة والتوزيع. ويذكرون أنَّ متابعة الأخبار عبر الإنترنت لا تعوِّضهم عن الصحيفة الورقية، بسبب أنَّ أغلبية الصحف السودانية ليست لديها مواقع إلكترونية، وضعف شبكة الإنترنت.
آخر الحصون
لم تسقط الصحف السودانية في امتحان الصمود، ولم تقف مكتوفة الأيدي في آخر حصون الحريات التي تم دكّها خلال الحكومة السابقة، فكافحت من أجل الحصول على ورق الطباعة ومن أجل أن تخرج الصحيفة من المطبعة سالمة من غير مصادرة أحد صفحاتها أو مصادرتها كاملة.
هذه ساحة أخرى دخلتها الصحف السودانية وهي ليست ساحة وغى تستبسل فيها من أجل الحقوق والحريات، ولكنها ساحة صراعٍ من أجل البقاء مع عدوٍّ شنَّ حربه على الجميع. وقائع كثيرة تشهد بانهيار الصحف، نجحت الصحف السودانية في التصدِّي لها ولكنها تقف اليوم مهزوزةً أمام جائحة كورونا.