الجو في غزّة محموم بشكلٍ دائم، لكن نادراً ما رأيتُ في السابق شيئاً من هذا القبيل. فالخوف تسلل إلى الحياة العادية هنا، المقاهي أغلقت، وأُلغيت الأعراس، وأقفلت الأسواق. الأصدقاء والزملاء يتحدّثون عن أمر آخر. وفيما ينتظر نحو مليوني شخص في حال من الرهبة، فإن الذين يستطيعون العمل انكبّوا عليه بلا كلل لتجّنب وقوع كارثة.
شاهدنا كيف أدّى انتشار مرض "كوفيد 19" في جميع أنحاء العالم، إلى إرهاق أنظمة الرعاية الصحّية المجهزة تجهيزاً جيّداً. ثم قبل أسبوع، تلقّينا أنباء كارثية: تسجيل أولى حالات الإصابة المؤكّدة بفيروس "كورونا" في قطاع غزّة. وكان اختبار رجلين عادا أخيراً من باكستان قد جاء إيجابياً، حين وصولهما إلى غزّة عبر معبر رفح الحدودي مع مصر. واليوم، ثمة أكثر من ألفي شخص في حجر صحّي، مع تأكيد اثنتي عشرة حالة جديدة. وفي غضون ذلك، تسابق السلطات والمنظّمات غير الحكومية والقوى العاملة في مجال الصحّة الزمن لاحتواء انتشار المرض.
لا يمكننا القيام بذلك بمفردنا بل نحتاج الى دعمٍ دولي للمساعدة في احتواء الفيروس وتجهيز فرقنا الطبّية ووقف انتهاكات حقوق الإنسان التي قوّضت قدرة غزّة على مواجهة هذه الحال الطارئة الجديدة.
القطاع الصحّي الفلسطيني الذي عملتُ فيه – في البداية ممرّضة، ثمّ في مجال الصحّة العامّة - لمدّة خمسة وعشرين عاماً، يترنّح، وهو على وشك الانهيار. فالمستشفيات والعيادات تحمّلت العبء الأكبر من ثلاث عمليات قصف عسكرية كبيرة بين العام 2008 والعام 2014، وواجهت هذه المرافق سيلاً هائلاً من الإصابات، بما في ذلك ثمانية آلاف جريح نتيجة فتح إسرائيل النار خلال احتجاجات "مسيرة العودة الكبرى" منذ العام 2018. وقد تمكّنت المؤسّسات الصحّية في القطاع من الاستمرار على الرغم من القيود الخانقة على الحركة التي فرضها حصارٌ إسرائيلي غير مشروع على القطاع لمدّة ثلاثة عشر عاماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى الحال الأليمة لنظام الرعاية الصحّية في غزّة، فإن حال الصحّة العامة في قطاع غزّة تُعدّ سيئة للغاية. فمع ارتفاع معدّلات البطالة والفقر عمّا يربو على 50 في المئة، يتعاظم غياب الأمن الغذائي. وتسبّب سوء التغذية المزمن في توقّف نمو طفلٍ من كلّ 10 أطفال في القطاع، وتعرّض جهاز المناعة لديهم للضعف.
أخشى أن يكون وباء "كوفيد 19" بمثابة الضربة القاصمة. فنحن نفتقر إلى البنية التحتية والمعدّات الأساسية والأدوية والإمدادات والموارد البشرية اللازمة لمواجهة تفشّي المرض. ففي قطاع غزّة بأكمله، هناك فقط ثمانية وسبعون سريراً في غرف العناية المركّزة. وثلاثة وستون جهاز تنفّس اصطناعي. وفي فبراير (شباط) الماضي، كان نحو 39 في المئة من جميع الأدوية الأساسية و31 في المئة من المواد المستهلكة، وصل إلى ما يعرف بـ "المخزون الصفر"، ما يعني أن الموجود منها على الرفوف يكفي لأقل من شهر واحد.
ليل أمس بالكاد تمكّنتُ من النوم. فكيف يمكننا عزل أنفسنا في أحد أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكّان على وجه المعمورة؟ ومن أين لنا التزام شروط النظافة الأساسية عندما تكون 96 في المئة من مياه القطاع غير صالحة للشرب؟ وماذا لو فشل الاحتواء، كم من الأطباء على الخطوط الأمامية في غزّة سيمرضون، مع وجود القليل من معدّات الحماية الشخصية PPE؟".
أخشى على المتقدمين في السن في مجتمعنا. فالأسر الغزّاوية غالباً ما تكون كبيرة، مع وجود صغار وكبار تحت سقفٍ واحد، وهذا من شأنه أن يزيد من خطر تعرّضهم للاتصال والعدوى. ويواجه الكبار في السن لدينا خطراً إضافياً نتيجة الانتشار الواسع لحالاتٍ صحّية مزمنة أساسية مثل داء السكّري وأمراض الرئة والقلب.
وفي منظّمة "المساعدات الطبّية للفلسطينيّين" MAP حيث أعمل، نسعى جاهدين مع شركائنا لاحتواء تفشّي المرض ومنع وقوع السيناريو الكابوس. لذا، سلّمنا عُدَد النظافة لفلسطينيّين في حجر صحّي، وكذلك الأدوية الأساسية والمواد الاستهلاكية الطبّية والأثواب المعقّمة. ونقوم بشراء معدّات الوقاية الشخصية والأدوية المطهّرة والأساسية لنشرها على نطاق واسع.
ومع ذلك لا يمكننا وحدنا كبح مدّ هذه الأزمة. فقطاع غزّة يحتاج إلى دعم دولي لإجراء الاختبارات وتطبيق الحجر الصحّي وتوفير لوازم التعقيم الأساسية. وعلى الحكومات الأجنبية تأمين معدّاتٍ طبّية لنا وأطباء أجانب وتدريب طبّي. وكانت الأمم المتّحدة وجّهت نداءٍ لتأمين أربعةٍ وثلاثين مليون دولار (28 مليون جنيه استرليني) للردّ على انتشار فيروس "كورونا" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وآمل في أن تلبي المملكة المتّحدة النداء.
وفي غزّة، هذه الحال الطارئة وليدة أزمة من صنيعة الإنسان على مر عقود. فقد خنق الاحتلال العسكري الدائم والحجر المستمر نموّ المؤسّسات الفلسطينية، بما فيها نظامنا الصحّي. وقبل وقتٍ طويل من وصول فيروس "كورونا" إلى غزّة، انتقد مقرّر الأمم المتّحدة الخاص بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "الانتهاك الإسرائيلي المتمادي" لحقّ الفلسطينيّين في الصحّة.
حريّ باستجابة المجتمع الدولي لمحنة غزّة أن تأخذ في الاعتبار، الأسباب الجذرية لسوء استعدادنا، وأن تسعى إلى معالجتها. وعلى المجتمع الدولي أن يحضّ إسرائيل ومصر وجميع الجهات المسؤولة على الوفاء بالتزاماتها القانونية الدولية. ويجب على وجه الخصوص، تذكير إسرائيل بواجبها كقوّة احتلال، في نشر جميع وسائل مكافحة انتشار الأمراض المعدية، ورفع الحصار.
وفي ظل جائحة على هذا القدر من الضخامة، يصبح العالم مجتمعاً واحداً. فهل سبق أن عُزلنا جميعاً، لكن معاً؟ قد يكون إظهار الإعجاب العام بالعاملين في مجال الصحّة رائعاً، لكننا في حاجة إلى المزيد. فالتضامن مع أكثر الفئات ضعفاً في العالم فقط، هو شرط التصدي لهذا التحدي العالمي غير المسبوق.
( فكر شلتوت هي مديرة البرامج في مؤسّسة "المساعدات الطبّية للفلسطينيّين"MAP في غزّة)
© The Independent