بينما ظلّ شرق السودان منطقةً شبه مغلقة سياسياً للحزب الاتحادي الديمقراطي منذ استقلال البلاد في عام 1956، لم يُعَمِّر ظهور مؤتمر البجا، باعتباره حركة مطلبية أكثر منها سياسية في عام 1958، إلا أشهراً قليلة عقب تأسيسه، بسبب انقلاب الجنرال عبود على السلطة نهايات العام الذي تأسس فيه المؤتمر.
كانت الطبيعة التقليدية والتصورات النسقية لعمل الحزب الاتحادي الديمقراطي في شرق السودان "شبه عاجزة" عن تفعيل قدراتها السياسية، لكن الخلفية الدينية لأهل الشرق (البجا)، وغالبيتهم من أتباع الطائفة الختمية، هي التي لعبت دوراً كبيراً في ذلك الولاء السياسي الحزبي للشرق، لأن رعاة الحزب الاتحادي الديمقراطي (المراغنة) كانوا هم، أيضاً، زعماء الطائفة "الختمية" في الوقت ذاته.
وعلى الرغم من قول كثيرٍ في الإعاقة التي ضربت الحزبين التقليديين (الأمة، والاتحادي الديمقراطي) خلال الحرب الباردة، وبالتالي انتقال أعدادٍ كبيرة في صفوف الشباب والطلاب من منسوبي الحزبين التقليديين إلى حركتين عقائديتين ناشطتين بقوة في ذلك الوقت (الحركة الإسلامية، والحركة الشيوعية)، فإنّ حقبة الانقلابات التي كان تقطع التطوّر الديمقراطي للسودان لعبت دوراً كبيراً في إعاقة التطوّر السياسي للأحزاب السودانية، التي انخرط بعضها في لعبة الانقلابات العسكرية في البلاد.
ومنذ انقلاب الإسلاميين بتدبير من حسن الترابي وتنفيذ عمر البشير في عام 1989 وعلى مدى 30 عاماً، خُرِّبت قواعد اللعبة السياسية من خلال أهم أدواتها (الأحزاب) بتفتيتها وتقسيمها حتى بدت بعد 30 عاماً واهنةً وعاجزة عن تدبُّر المعارضة السياسية لنظام البشير على نحو فعّال، وفي الوقت ذاته كانت ساحات التسييس تضيق، لتتحول من الأحزاب إلى الحركات، ومن السياسة إلى العنف، ومن الطبيعة المدنية إلى الطبيعة المناطقية والأقوامية، وهكذا ظهرت حركتا دارفور والشرق وغيرهما، مثل حركات معارضة مسلّحة.
بينما لعبت الإنقاذ في الداخل على تسييس القبائل وتحويل بنيتها القرابية إلى "بنية" سياسوية معطوبة، عمادُها زرع الانقسام بين القبائل، مثلما جرى تفتيت الأحزاب من قبل.
اليوم، في الواقع الذي آل إليه الحال بعد الثورة، أصبح شرق السودان منطقة مكشوفة سياسياً واستراتيجياً، مع أنه أهم منطقة جيوسياسية في السودان.
في ظل الواقع الثوري الجديد، يبدو أنّ مؤتمر البجا خارج قدرات إدارة المرحلة السياسية لما بعد الثورة، فهو، بعد أن ناضل وحمل السلاح ضد حكومة الإنقاذ دخل منذ عام 2006 في الساحة السياسية عبر اتفاقية "أسمرا"، التي تمت بينه (ومعه أحزاب سياسية أخرى مصنوعة) ونظام الإنقاذ. لكن ما أن دخل مؤتمر البجا إلى الداخل حتى أصابته انقسامات حادة فرّقت كياناته إلى عدة أحزاب، وأصبح حاله كحال الأحزاب الأخرى.
عبر تلك المآلات التي بدت خلالها أحزاب وحركات السياسة السودانية، لا بدّ من إدراك أن سقوط نظام البشير لا يعني، بالضرورة، سقوط منظومة التفكير السياسوي التي خلّفها وأدار بها السيرك السياسي عبر نظام تسييس القبائل لـ30 عاماً، لا سيما في المناطق الأكثر فقراً وتخلّفاً، مثل شرق السودان، بحيث يمكننا اليوم أن نتأمل تداعيات الفراغ السياسي في الشرق، وصراع الإرادات الذي يحدث فيه عبر امتداد طرائق التعبير السياسوية للعهد البائد.
اليوم، لا يوجد في شرق السودان تفكير سياسي للأحزاب يستصحب طبيعته الجيوسياسية الحسّاسة، خصوصاً في ظل الواقع الثوري والأجندات الخارجية التي تتهدده، وتضع عينها على شرق السودان، باعتباره خاصرة رخوة للثورة. ذلك أن ما يطفو على السطح السياسوي ظل امتداداً لما أشرنا إليه. الأمر الذي سيجعلنا نتساءل عن أي مصير سيكون للشرق إذا تُرك لحاله هذا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمن جهة، أصبح مؤتمر البجا فاقداً الصلاحية السياسية تقريباً، لأنه في الحقيقة لم يكن هناك ظرف زمني وسياسي حر، لإنضاج التجربة السياسية للمؤتمر في ظل عهود الانقلابات السياسية، ما أدّى إلى حال الحزب الحالية، إذ أصبح اليوم منقسماً إلى أحزاب صغيرة.
ومن ناحية ثانية، لا يبدو ثمة أثر سياسي واضح لتحالف قوى الحرية والتغيير، خصوصاً عقب الموجات الثلاث للاقتتال الأهلي التي هزّت مدينة بورتسودان بعد الثورة في العام الماضي، ما أدّى إلى تقلُّص رقعة الاشتغال السياسي في المكونات المدنية لقوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة بطبيعة الحال. وهكذا، بدا نمط الأداء السياسوي في الشرق، خصوصاً في مدينة بورتسودان، انعكاساً للتكريس الذي رعاه النظام القديم في تسييس القبائل.
في ظل واقع سياسي مسدود من ناحية، ومفتوح على كل الاحتمالات من ناحية ثانية نظراً إلى الفراغ السياسي، فإنّ على قوى الحرية والتغيير والأحزاب السياسية الآخذة في الانتشار اليوم لنشاطها القوي وتاريخها السياسي الذي لا علاقة له بنظام عمر البشير، مثل حزب المؤتمر السوداني وكذلك التجمع الاتحادي، أن تعيد قراءتها لهذا الواقع السياسي المسدود في الشرق، لأن وضع شرق السودان وما جرى فيه من احتقان في الربع الأخير من العام الماضي يعكس تماماً إلى أي مدى ستكون تداعيات ذلك الفراغ كارثية!
كما أنه على النخب السياسية والمستقلة من أبناء شرق السودان ضرورة إدارة حوار استراتيجي سياسي فكري عبر منابر قوى الحرية والتغيير، والمنابر السياسية العامة للتفكير حول المآلات المحتملة للأوضاع في الشرق واستصحاب المخاطر الداخلية والخارجية التي يمكن أن تجعل من شرق السودان منطقة صراع جيواستراتيجي مقبل!