وسط توقعات أكثر من قاتمة، من المنتظر أن تتسبب التداعيات والمخاطر الاقتصادية في أن تتراجع دخول الأفراد في نحو 170 دولة على مستوى العالم، مع ترجيحات بفقدان سوق التوظيف العالمية نحو 200 مليون فرصة عمل خلال العام الحالي.
وبخلاف الركود العنيف الذي يواجهه الاقتصاد العالمي بالفعل في الوقت الحالي، لكن الأزمة امتدّت بالفعل إلى دخول الأسر والأفراد، بخاصة مع اتجاه قوي لدى غالبية الشركات لترشيد الإنفاق العام، مع إلغاء الخطط التوسعيّة والاتجاه إلى تسريح جزء من الموظفين والعمّال، وهو ما يضع الحكومات أمام مأزق أكبر من خسائر الاقتصاد الكلي وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بشكل عام.
وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، فمن المتوقع أن يتراجع نصيب الفرد من الدخل في أكثر من 170 دولة. لكن في الوقت نفسه، رجّح الصندوق أن تتعافى الاقتصادات المتقدمة والنامية والأسواق الناشئة بشكل جزئي خلال عام 2021.
لكن نظرة بسيطة على معدل الدين العالمي تشير إلى حجم الأزمة المتوقعة خلال العام الحالي، حيث تفيد بيانات معهد التمويل الدولي بأن الديون العالمية تشكّل نحو 322 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مع توقعات ببلوغها مستوى 255 تريليون دولار بنهاية العام الحالي.
وعند المقارنة مع بداية الأزمة المالية في عام 2008، فإن الديون العالمية ارتفعت بنحو 40 في المئة، أو ما يعادل 87 تريليون دولار. وبالنسبة إلى ديون الأسر، فإنها تتجاوز حالياً مستوى 48 تريليون دولار، مقارنة مع 35 تريليون دولار في عام 2007 بنسبة زيادة تتجاوز نحو 37 في المئة.
أزمة صحية ومالية وانهيار في أسعار السلع
في تقرير نشرته مدونة صندوق النقد الدولي، ترى كبيرة الاقتصاديين بالصندوق، جيتا جوبيناث، أنه مع تنفيذ الدول الحجر الصحي الضروري وسياسات التباعد الاجتماعي من أجل احتواء الوباء، فإن العالم أصبح داخل حالة من الإغلاق الكبير. ومن غير المرجح ألا يكون حجم وسرعة الانهيار في النشاط الذي يتبعه مشابهاً لأيّ شيء شهدناه في حياتنا.
وقالت إن الأزمة الحالية لا مثيل لها، كما أن هناك حالة كبيرة من عدم اليقين بشأن تأثيرها على حياة الناس وسبل كسب العيش. ويتوقف الكثير على حجم الوباء وفعالية تدابير الاحتواء وتطوير العلاجات واللقاحات، لكن كل هذا يعدّ بمثابة أمور من الصعب التنبؤ بها. وعلاوة على ذلك، يواجه العديد من الدول حالياً أزمات متعددة، حيث هناك أزمة صحيّة وأخرى ماليّة وانهيار في أسعار السلع، والتي تتفاعل بطرق معقدة.
وأشار التقرير إلى قيام صناع السياسات بتقديم دعم غير مسبوق للأسر والشركات والأسواق المالية، وفي حين أن هذا الأمر يُعد حاسماً بالنسبة إلى التعافي القوي، إلا أن هناك حالة قوية من عدم اليقين حول ما سيبدو عليه المشهد الاقتصادي عندما نخرج من هذا الإغلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ظل السيناريو الذي يفترض أن الوباء وتدابير الاحتواء المطلوبة ستصل للذروة في الربع الثاني بالنسبة إلى غالبية دول العالم، على أن ينحسر ذلك في النصف الأخير من هذا العام، فنتوقع عبر تقرير الآفاق المستقبلية بشأن الاقتصاد العالمي عن شهر أبريل (نيسان) أن يتعرّض الاقتصاد العالمي إلى انكماش بنحو 3 في المئة في عام 2020.
وتعتبر هذه التقديرات عبارة عن تعديل بالخفض بنحو 6.3 في المئة، مقارنة مع التوقعات السابقة الصادرة في يناير (كانون الثاني) الماضي، وهو ما يمثل مراجعة كبيرة في غضون فترة زمنية قصيرة للغاية.
وترى أن الإغلاق الكبير سيؤدي إلى ركود اقتصادي هو الأسوأ منذ الكساد العظيم في عام 1930 وأسوأ بكثير من الموقف في الأزمة المالية العالمية في 2008. ومع افتراض أن الوباء سيتلاشى في النصف الثاني من عام 2020 وأن إجراءات السياسة المتخذة في أنحاء العالم كافة تتمتع بالفعالية في الحيلولة دون حالات الإفلاس على نطاق واسع والخسائر الكبيرة في الوظائف والضغوط المالية على مستوى النظام بالكامل، نتوقع أن يتعافى النمو العالمي في عام 2021 إلى نحو 5.8 في المئة.
وسيكون هذا التعافي في عام 2021 جزئياً فقط، حيث من المتوقع أن يظل مستوى النشاط الاقتصادي دون المستوى الذي توقعناه لذلك العام قبل ضربة الفيروس.
خسائر تراكمية للناتج الإجمالي العالمي
ومن شأن الخسارة التراكمية للناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال عامي 2020 و2021 بسبب انتشار الوباء أن تكون في حدود 9 تريليونات دولار، وهو ما يعتبر أكبر من حجم اقتصاديّ اليابان وألمانيا مجتمعين. وتُعد هذه بمثابة أزمة عالمية حقيقية حيث لا يوجد دولة بمنأى عن ذلك، كما أن الدول التي تعتمد على السياحة والسفر والضيافة والترفيه في نموها الاقتصادي تعاني بشكل خاص من اضطرابات كبيرة.
ويشير التقرير إلى أن الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تواجه تحديات إضافية مع انعكاسات غير مسبوقة في تدفقات رأس المال مع تراجع شهية المخاطرة العالمية وضغوط العملة، بينما تتعامل مع النظم الصحية الضعيفة والمساحة المالية المحدودة لتقديم الدعم.
وعلاوة على ذلك، دخل العديد من الاقتصادات هذه الأزمة في حالة ضعف مع تباطؤ النمو وارتفاع مستويات الديون. وللمرة الأولى منذ الكساد الكبير، تعيش الاقتصادات المتقدمة والنامية والأسواق الناشئة في حالة من الركود. وبالنسبة إلى العام الحالي، فمن المتوقع أن تشهد الاقتصادات المتقدمة انكماشاً بنسبة 6.1 في المئة.
ومن المتوقع كذلك أن تشهد الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، والتي تكون مستويات النمو الطبيعية فيها أعلى بكثير من الاقتصادات المتقدمة، انكماشاً بنحو 1 في المئة في عام 2020، وبنسبة 2.2 في المئة إذا تم استبعاد الصين. وتوقعت أن تتسبّب هذه المعطيات في أن يتراجع نصيب الفرد من الدخل في أكثر من 170 دولة.
ولفت التقرير إلى أن كل هذه المعطيات تعبّر عن سيناريو التوقعات الأساسي، لكن بالنظر إلى حالة عدم اليقين الشديد حول مدّة وشدّة الأزمة الصحية، فإن هناك سيناريوهات بديلة أكثر سلبية. فمن المحتمل ألا ينحسر الوباء في النصف الثاني من العام الحالي، مما يؤدي إلى فترات أطول من الاحتواء وتدهور الأوضاع المالية، إضافة إلى المزيد من الانهيار في سلاسل التوريد العالمية.
وفي مثل هذه الحالات، من شأن الناتج المحلي الإجمالي العالمي أن يشهد انكماشاً بوتيرة أكبر، حيث سيكون هناك تراجع إضافي بنحو 3 في المئة في عام 2020 إذا كان الوباء سيمتدّ لفترة أطول هذا العام. في حين أنه في حال استمرار الوباء حتى عام 2021، فمن المحتمل أن يكون هبوطاً إضافياً بنحو 8 في المئة خلال العام المقبل مقارنة مع سيناريو التوقعات الأساسي.
المقايضة بين إنقاذ الحياة وإنقاذ سبل العيش
ومع انتشار فيروس "كوفيد-19"، فإن الحكومات لجأت إلى عمليات الإغلاق، بما يسمح للأنظمة الصحية بالتعامل مع الوباء، والذي يسمح بعد ذلك باستئناف النشاط الاقتصادي. وفي هذا الصدد، لا توجد مقايضة بين إنقاذ الحياة وإنقاذ سبل العيش، وبالتالي يجب على الدول الاستمرار في الإنفاق بسخاء على أنظمتها الصحية وإجراء اختبارات على نطاق واسع، فضلاً عن العزوف عن القيود التجارية المفروضة على الإمدادات الطبية.
ويجب أن تضمن الجهود العالمية أنه عندما يتم تطوير العلاجات واللقاحات، يكون لكل من الدول الغنية والفقيرة، على حدّ سواء، إمكانية الوصول الفوري إليها. وبينما يتم إغلاق الاقتصاد، يجب أن يضمن صنّاع السياسة قدرة الناس على تلبية احتياجاتهم وأن الشركات يمكنها أن تتعافى بمجرد انتهاء المراحل الحادة من الوباء.
وكانت السياسات المالية والنقدية الضخمة والمتخذة في التوقيت المناسب بالفعل من جانب العديد من صناع السياسيات - بما في ذلك ضمانات الائتمان وتسهيلات السيولة وتحمل القروض وتوسيع التأمين ضد البطالة والمزايا المعززة والإعفاء الضريبي- بمثابة وسائل مساعدة للأسر والشركات.
وينبغي أن يستمر هذا الدعم طوال مرحلة الاحتواء لتقليل الندبات الدائمة التي يمكن أن تنشأ نتيجة تدهور الاستثمار وفقدان الوظائف في ظل هذا الاتجاه الهبوطي الحادّ للاقتصاد. كما يجب على صناع السياسات كذلك التخطيط للتعافي، فمع بدء إزالة إجراءات الاحتواء يجب أن تتحوّل السياسات سريعاً إلى دعم الطلب وتحفيز التوظيف من جانب الشركات، وإصلاح الميزانيات العمومية في القطاعين الخاص والعام من أجل المساعدة على التعافي.
وسيعمل التحفيز المالي الذي يتم تنسيقه عبر الدول ذات المساحة المالية على تضخيم الفوائد التي ستعود على الاقتصادات كافة. ومن المحتمل أن تكون هناك حاجة إلى استمرارية الوقف الاختياري لسداد الديون وإعادة هيكلتها خلال مرحلة التعافي. ويعتبر التعاون متعدد الأطراف بمثابة أمر حيوي لقوة التعافي العالمي.
ومن أجل دعم الإنفاق المطلوب في الدول النامية، يجب على الدائنين الثنائيين والمؤسسات المالية الدولية توفير التمويل الميسر والمنح وتخفيف عبء الديون. وساعد تنشيط وإنشاء خطوط المبادلة بين البنوك المركزية الرئيسة في تخفيف نقص السيولة الدولية، وربما نحتاج إلى التوسع في المزيد من الاقتصادات. كما أن هناك حاجة إلى جهد تعاوني لضمان عدم مواجهة العالم لحالة من تقليص العولمة، حتى لا يتضرّر التعافي من خلال المزيد من الخسائر في الإنتاجية.