لا شك في أن رحيل الكاتب المصري جميل عطية إبراهيم، قبل أيام، في دار لرعاية المسنين في سويسرا، كان صادماً رغم توقعه بسبب تفاقم معاناته من أمراض الشيخوخة وخصوصاً الزهايمر. استقر إبراهيم في سويسرا منذ العام 1979، حيث عمل في الصحافة، بعد أن عمل بالتدريس لسنوات عدة في مصر والمغرب، وكان قد ساهم مع عدد من كتاب جيل الستينات في تأسيس مجلة "جاليري 68" في القاهرة، وتوزَّعت كتاباته الأدبية بين القصة القصيرة عبر مجموعتي "الحداد يليق بالأصدقاء"، و"طقوس الخريف"، والرواية التي قدم فيها أعمالاً مميَّزة منها "أصيلا"، و"البحر ليس بملآن"، و"النزول إلى البحر" وثلاثيته الشهيرة ("1952" و"أوراق 1954" و"1981") و"أوراق الإسكندرية"، و"خزانة الكلام"، و"نخلة على الحافة"، و"المسألة الهمجية". ورغم هذه الأعمال المهمة فمن المؤكد أن كاتبنا لم يأخذ حقه من القراءة النقدية ولا شك أن غربته كانت سبباً رئيساً فى ذلك. وتذكرنا ثلاثيته عن ثورة يوليو المصرية بثلاثية نجيب محفوظ عن ثورة 1919 وهو يعترف بأنه قرأ ثلاثية محفوظ عشرات المرات لتكون حافزاً له على الكتابة وإن كان فى النهاية أنتج ثلاثية مختلفة فى بنائها. فهو لم يعتمد – كما فعل محفوظ – على رواية الأجيال بل استفاد من شكل السوناتا في التأليف الموسيقي، فقام بتثبيت الشخصيات وتحريك الأحداث طبقاً لحركة التاريخ. تناول في الجزء الأول حريق القاهرة ووقوع حركة الجيش، وفي الثاني انقلاب عبدالناصر على محمد نجيب، وفي الثالث اغتيال السادات.
واللافت أن هذه الثلاثية كانت بمثابة رد فني على سؤال "سيد"، بطل "النزول إلى البحر": "لماذا جرت أحداث ثورة يوليو على هذا النحو ولماذا جرى ما جرى بتلك الطريقة ولاتزال الناس تسكن فى المقابر والأمية على حالها بعد حوالى ثلاثين عاماً على الثورة؟". وإذا كان هذا التساؤل هو دافع كتابة الثلاثية فقد كُتبت – أيضاً – بإحساس "عجيب كفافي"؛ بطل "أوراق الإسكندرية" حين يقول: "نحن جيل 52؛ خرجنا من التاريخ فى وقت مبكر وتحملنا هزائم لم نتسبب فيها ووقعت تبعاتها علينا دون وجه حق".
إنجازات الثورة
إن جميل عطية مسكون بالتاريخ وبالعدالة الاجتماعية وبالديموقراطية التي يرى أن غيابها كان السبب الرئيس في تراجع إنجازات ثورة يوليو. كما كتب - انطلاقاً من قناعاته القومية – رواية "المسألة الهمجية" لتفنيد الأسطورة الصهيونية، متوقفاً أمام شخصية شارون ومذبحة جنين. وهي رواية تقترب من السيرة الذاتية، فبطلها – كما هو حال كاتبنا – كان يعمل صحافياً فى جنيف أثناء سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي . إن جميل عطية يكتب بدمه وأعصابه إلى درجة إصابته – حقيقة – بالاكتئاب بعد التحولات الجذرية التي شهدها الواقع المصري في السبعينيات. ورغم أنه كان يقصد – بثلاثيته – حفظ ذاكرة الأمة التي تعرضت للمحو والتشويه، فإنه يفرق جيداً بين المؤرخ والروائي الذي هو أقرب – كما يقول فوكو – إلى المؤرخ السري المهتم بالتفاصيل والمهمشين والمسكوت عنه. وتحيلنا عناوين الثلاثية إلى تأثره بأسلوب المؤرخ الفرنسي فرناند برودال؛ مؤسس المدرسة البنيوية، في تسجيل الحوليات التاريخية من مواقع مختلفة تشمل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والانثروبولوجي. ومن هنا قدمت رواية "1952" بانوراما للمجتمع المصري ما بين قصور الأسرة المالكة والباشوات وبيوت العمدة والفلاحين وأروقة جامعة فؤاد وخبايا العمل السياسي العلني والسري. وقد اختار عزبة عويس – القريبة من القاهرة – مكاناً أساسياً في هذه الرواية وذلك لأن كاتبنا قاهري وليست له معرفة قوية بحياة الفلاحين، كما نجد عند عبد الحكيم قاسم وخيري شلبي مثلاً. تلك العزبة تقع على التخوم ما بين القرية والمدينة.
وفي الجزء الثاني يتعرض لأزمة "مارس" التي تباينت الآراء فيها غير أن جميل عطية يجعل من هذه الآراء خلفية للتفاصيل الحياتية المعيشة التي اهتم بها بوصفه روائياً يملك – كما يقول الناقد الراحل عبدالمحسن بدر- "موهبة اكتشاف الجديد وغير العادي في العالم العادي المألوف". وتعددت في هذه الرواية صور القمع الذي شمل بعض أساتذة الجامعة، سواء بإقالتهم من وظائفهم أو بالاعتقال، كما شمل الاتجاهات المعارضة مثل التيار الماركسى الذي مثَّله "عباس أبو حميدة"، و"د.أوديت"، و"خالد القويسي" الذين تباينت مواقفهم من الثورة. فقد كان الأول على صلة باليوزباشي "أنور عرفة" وكانا دائمي التشاور في العديد من القضايا ولم تكن المشكلة بينه وبين الثورة إلا تلك الاعتقالات المستمرة واندفاع الضباط كل يوم للقضاء على مظاهر الديموقراطية. ولا يختلف موقف "خالد القويسني" عن هذا. أما "د.أوديت" فقد ظلت على رفضها للثورة باعتبارها حكماً عسكرياً قائماً على القمع. ولا شك أن هذا التباين راجعٌ إلى اختلاف المواقع الاجتماعية بين طبقة حريصة على الإنجازات الاجتماعية التى حققتها الثورة (طبقة أبو حميدة والقويسني) وطبقة لم تعط الأولوية لهذه الإنجازات وى طبقة "د.أوديت".
أما موقف "الإخوان المسلمين" فقد كان رافضاً للثورة رغم التحالف البراغماتي في البداية. ويظل رأي "د.السيد أحمد" أكثر الآراء موضوعية، فبعد موت ابنته "أوديت" في حادث سيارة مدبَّر، نجده يرتفع فوق مشاعره قائلاً: "ما وقع لابنتي ليس حادثة فردية وعلى الشعب أن يجري حساباته ويحصي مكاسبه وخسائره ويقيم ما قدمه جمال عبدالناصر إلى هذا البلد وبعدها يصدر حكمه وحكم الناس أقسى وأصدق". وهو لا يرى الثورة خيراً كاملاً أو شراً كاملاً؛ بل يراها شأن أي ثورة وشأن الحياة نفسها: "ألوانها رمادية لا تعرف الأبيض أو الأسود". وهذا ما فعله الكاتب نفسه حين أدان افتعال التناقض ما بين إنجازات الثورة الاجتماعية وبين الديموقراطية باعتبارها عودة للإقطاع.
صراع ثنائي
هكذا يمكن القول إن هذه الرواية تحكي قصة الصراع بين مجموعتين: الأولى هي المدافعة عن نظام الحكم الشمولي بوصفه النظام الأمثل للحفاظ على الثورة، والثانية هي المدافعة عن النظام الليبرالي وتعدد الأحزاب، ثم نجاح المجموعة الأولى في الانفراد بالسلطة من خلال مجموعة من الأساليب منها القمع المادي وتقريب الموالين وتوظيف كافة وسائل الإعلام المؤثرة على وعي الجماهير. وفكرة الثلاثية لا تعني أننا أمام بناء فني واحد، فالجزء الأول يقوم على ترقيم الفصول التي بلغت تٍسعة وثلاثين فصلاً تتراوح بين القصر الشديد الذى قد يكون ثمانية سطور فقط كما فى الفصل الأخير، والحجم المتوسط. والرواية مسرودة من خلال الراوي الخارجي العليم بالشخصيات والأحداث وطبيعة المكان. يقول في الاستهلال: "عزبة عويس غارقة في صفار شمس العصاري وقد خفت حركة البيع والشراء في سوق الخميس وتفرق الخلق في دوائر وحلقات، حلقة من الخلق حول الرفاعي المخاوي للثعابين والحيَّة وحلقة حول صندوق الدنيا". في هذا الاستهلال يحدد الراوي المكان والزمان وقلة حركة البيع والشراء ووسائل الترفيه الريفية. وهكذا يمهد لوقوع الأحداث على مسرح المكان الرحب المنفتح على الطبيعة، وهو ما يصنع مفارقة مع طبيعة السجن بوصفه مكاناً مغلقاً مقيداً لحركة مَن بداخله كما يبدو في قوله: "المعتقلون فى سجن الهاكستب يعانون من ضيق المكان ومن حدة المناقشات والخلافات"، وذلك بعد حملة الاعتقالات على إثر حريق القاهرة.
أما رواية "أوراق 1954"، فتقوم على فصول تحمل أسماء بعض شخصياتها، ما يعني أننا أمام سرد مقدم بضمير المتكلم على لسان كل شخصية من هذه الشخصيات ما يقربنا من طبيعة الرواية متعددة الأصوات.
يقول "يونس": "دلفت إلى مقهى الفيشاوى واخترت مائدة في ركن قصي في عمق المقهى... في هذه الساعة من النهار لن يعرفني أحد. وربما إذا أتيت ليلاً تعرف عليَّ طالبٌ أو أستاذ". فالشخصية هي التى تقدم نفسها وتصف حركتها وتحدد المكان والزمان وتعبر عن مخاوفها، ولأننا أمام شخصية أستاذ جامعي مثقف فليس من المستغرب أن يستشهد بأشعار كفافيس حين يقول: "ولسوف تتبعك هذه المدينة إلى آخر العمر...". ورغم إشارة الشخصية المتكلمة إلى أن هذه هي مدينة الاسكندرية فإنه يسقط هذا الوصف على القاهرة. ورغم صرامة إدوار الخراط حين قال لكاتبنا إنه كان يعرف ما سوف يقوله فى الثلاثية قبل أن يقرأها ونصحه أن يعود إلى عالمه القديم في "النزول إلى البحر"، و"البحر ليس بملآن"، فإننا نستطيع القول إن جميل عطية إبراهيم استطاع أن يقدم ثلاثية مهمة تجمع بين طبيعة الوثيقة السياسية والاجتماعية وطبيعة الفن الروائي في توافق فريد يدل على عمق موهبته.