في الروايات السبع عشرة التي سبق للروائي اللبناني رشيد الضعيف أن أصدرها في قرابة أربعين عاماً، والتي يتوالى نشرها مترجمة إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية وسواها أيضاً، للدلالة على رواج أدبه، وشهرته التي تجاوزت حدود جمهور القرّاء من اللبنانيين والعرب، إلى جمهور القرّاء الأجانب، دائماً ما يشير إلى لعب أو مواراة أو تحدّ لقارىء نصّه القريب منه والبعيد، والمكشوف والمستور، بستار اللغة وأساليبها، في آن، والملفوظ والمتروك طيّ التأويل، والحامل سهاماً كثيرة يطال بها حيناً القارىء المتذوّق، وحيناً القارىء الناقد، وأحياناً أخرى اللهج الاجتماعي بتعريف بيار زيمّا، وجمهور السياسة وأربابها حيناً آخر. الرواية الجديدة "خطأ غير مقصود" (دار الساقي) للروائي الضعيف تفتح للقرّاء، على اختلاف متطلّباتهم ووجهات نظرهم، إشكالية يصعب عليهم معالجتها أو النفاذ إلى عواملها وظواهرها، تمهيداً لإيجاد الأجوبة الشافية عن الأسئلة الكثيرة التي تطرحها.
تبدأ الرواية بسرد كلام، على لسان شخص يستعيد بعضاً من سيرته الذاتية، بل يشرع في السرد من عقدة الفطام المبكر الذي يظنّ الراوي (بصيغة المتكلّم الذكر) أنه سبب للكثير من العلل والانحرافات والفشل التي أصابته وهو بالغ السبعين ونيّفاً. فيقول: "أخطأت أمي خطأً قاتلاً إذ فطتمني باكراً". (ص:9) وقال أيضاً في شأن نتائج هذا الفطام: "ولو أنها لم تمنع عنّي حليب ثديِها، لكنتُ اشتغلتُ بالسياسة ونجحتُ" (ص:11)، ثمّ إنّ القارىء، لا يزال يتابع الإشارات الكثيرة التي يمكن أن تدلّ على طبيعة السرد، وإمكان إحالته على الكاتب رشيد الضعيف، حتى وقع على حوار بين الراوي الطفل، وامرأة: "قالت لي: شو إسمك يا حلو؟ أجبتها: "رشيد" (ص:38) حتّى تثبّت - وليس تماماً - من أنّ النص والرواية يستندان إلى سيرة الكاتب (رشيد الضعيف) الذاتية، أو بعض منها، لا يتعدّى طفولته الأولى وصولاً إلى فتوّته. هذا لو عددنا الاسم التعريفي الأول (رشيد) دالاً بذاته على كيان الكاتب من دون اسم عائلته. وعندئذ، يصير متوجّباً على القارىء أن يعود القهقرى، ليعاود النظر في الأحداث الطفولية التي فاتته في المشاهد (العناوين) الآتية: قسوة لا تُحتمل، ومضارّ كرة القدم، ولمّا ضربْنا والدَنا، وشجاعة والدي، ولم أخبر والدتي، ويا خجلي!.... وهي جميعها تروي فصولاً عن طفولة معذّبة، إطارها الطبيعي عائلة فقيرة مؤلفة من ثمانية أفراد، وأب لا حرفة له دائمة، ولا قدرة على توفير أسباب العيش الكريم لأفراد أسرته، حتى يكاد صيت "ابن الزبّال" يصحّ في الطفل، راوي سيرته على أنها تُنمى إلى الكاتب. أما الأم المكثارة بالحبَل والولادة، ظنّاً منها أنّ "الحَبَل هو الجنس، وأنّ الجنسَ هو الحبَل" (ص:12)، فكانت تأتي أعمالها وتفكّر في عواقبها لاحقاً، وتؤاخذ نفسها عليها، ولكن بعد فوات الأوان، ولا سيّما فطام طفلها رشيد، وإبدالها الثدي بالبيبروني. ولسوف يستخلص الراوي- وقد بلغ الكبَر وقارب الشيخوخة ونال من العلم والمعرفة بعلم النفس قدراً عالياً- من ذلك الفطام المبكر أنه أنزل في نفسه عِقَداً أقلّها شعوره "بالهزيمة "سيلازمه طوال حياته.
تضليل القارئ
وبالعودة إلى بعض السيرة الطفولية الآسرة التي نقلها الراوي- على أنه رشيد الضعيف نفسه طفلاً، أو شاء الروائي تضليل القارئ على أنه كذلك، على ما نرى لاحقاً- والتي يرى إليها من منظور العارف بعلم النفس وبفرويد، ثمّ الناظر إليها بعين الطفل والفتى، حيناً بعد آخر، إذ يروي إخفاقه وأخاه يوسف في إخفاء ذهاب الثاني إلى الملعب لحضور كرة القدم، وفشلهما أيضاً في الحؤول دون اجتماع الوالدين لينجبا المزيد من الأخوة والأخوات. وليروي أيضاً كيف أنّ الأخوة هؤلاء عزموا يوماً على ضرب والدهم لمّا تخاذل أمام جار لهم صاحب متجر ملاصق لهم، وقد أشبع والدهم ضرباً من دون أن يردّ عنه، ضعيفاً خانعاً، كما حاله أمام امرأته القوية. ضربوه لتذكيره بلزوم الردّ على العار الذي لحق بهم، بعد البؤس. فكان من الأب "الضعيف" هذا أن تحيّن فرصة إفراده بذاك الجار، وطعنه حتى الموت ثأراً لكرامته، وردّاً لاعتبار الأبناء والبنات والزوجة.
وفي ما يشبه المحاججة بشأن الضعف في النفس- الذي سببه الأول فطام مبكر- يستحضر الراوي حادثة نزوله إلى بيروت، برفقة والده ليشتري له هدية، وكيف أنّ الوالد خطر له أن يلعب لعبة الكشتبان مع أحد النصّابين في ساحة البرج، فخسر ماله ولكنّه استدرك أمره وهدّد اللاعب بسكينه وجرحه مما اضطُّر الأخير إلى ردّ المال له مضاعفاً. ثمّ يعرّج على مشهد بكائه أمام الضابط، يوم بلغ الثامنة عشرة وحان التدريب العسكري لأمثاله من طلاب المرحلة الثانوية، حين نهره وأنّبه على عدم ترتيبه فراشه في الخيمة. ولو أنني عبرتُ المشاهد الباقية في الرواية، (8-21) التي توقّف فيها الراوي عند محطة فاصلة في حياته شاباً وراشداً وكهلاً ثم على عتبة العجز في السبعينيات من عمره مريضاً بسرطان بطيء النموّ، لأمكنني أن أستخلص منها فكرتين نقيضتين: الضعف/ القوة، والخوف سليل الضعف، تتواتر على لسان الراوي في برلين، في خلال لقائه مع طلاب عرب وأجانب حول موضوع العداء بين العرب والغرب، أمّا القوة وسليلتها الدهاء، فيمكن استخلاصهما من فصل "الصدمة"، إذ تتقدم منه سيدة طالبة منه أن يضع ملاحظاته على روايتها الأولى، فيقع في حبالها، ومن فصل "دهاء جدّتي"، إذ يستحضر دهاء جدّته المسافرة الى أميركا واللاعبة على وتر الإثارة الجنسية ولا تقع وتنال ممّن توقعه مالاً وفيراً اشترت به البيت والبستان. ثمّ إنّ القوة أيضاً تغطّي حكاية "آمرة" المرأة صديقته الشابة التي كانت قد هجرت زوجها بسبب رائحة فمه وعدم اغتساله قبل المجامعة، إلّا أنّ الأمر لم يفلح معها، وكان وضع في حسبانه أن يقضي أيامه الأخيرة، التي يتيحها له السرطان المتقدّم، محتفلاً "بانتهاء حياتي الجنسية احتفالاً يبقي ذكراها ماثلة أمام عينَيّ (ص:96) وما لم تحسنه "آمرة" يمكن لـ"فاكرة" الإثيوبية أن تقوم به وبالمال، هذه المرة، وقد بات وفيراً لدى الراوي، ولكنّه خاب ظنّه وما أصاب. ولا يتبقى له سوى استحضار لحظات المتعة القصوى التي حظي بها، ولا سيما "لينا" الصبية التي لقيها في أثناء التعزية بصديقه المتوفّى أيمن، بعدما قضى معها لحظات من الجنس المفعم بالحسّ لا تُنسى.
الأسباب والنتائج
وإذ يختم الكاتب روايته بمشهد وحيد، بعنوان "الأسباب"، الذي يمكن أن نبدله بآخر أكثر انطباقاً على ختام المحاجّة بين ضعف الرجل الشرقي/ وقوة المرأة، (النتائج)، فإنه يوحي بأنّ الرواية والكاتب ينتميان إلى مدرسة الرواية - الثيمة أو الموضوع، وإن كان قد أنكر حسبانه على هذا الخط، في ما مضى. ولكن مهلاً. هل ما زلتم تعتقدون أن رواية "خطأ غير مقصود" هي سيرة ذاتية، أو بعض من سيرة ذاتية حقيقية للكاتب رشيد الضعيف؟ للإجابة، أقول مع جيرار جينيت إنّ تخييل الذات أي وضع ذات الكاتب السارد قد يكون تخييلاً زائفاً، وهو كذلك، بغرض مضاعفة موضع المادة التخييلية انتباه القارىء، وبثّه المزيد من أوهام الحقيقة والواقع عن شخص الكاتب وهو ولئن أمدّه ببعض من أحداث حياته الواقعية، فإنه يأبى نقلها إلى السرد الروائي إلاّ محرّفة ومنقوصة بحيث ينزع عنها صفتها التوثيقية التي تدمغ الشخص أو تمهره أو تحيله كائناً عادياً، في حين أنه، عنيتُ الروائي، كائن يحسب نفسه متخيلاً أو قيد التخيّل والصيرورة. وبعيداً من مقولة أنّ "التخييل يحمي" على ما تقول آنّي آرنو، فإنّ الرواية التي يستجلي فيها القارىء بعضاً من سمات الأب "الضعيف" والأم القوية، والمرأة الحبيبة المخلّصة، والخادمة الفقيرة ولكن ذات الدهاء، تدوّن نقطة إنسانية في مسار بحث الراوي عن سر توازنه، وهي بلوغه نقطة النهاية في حياته ورغبته في قضاء آخر أيامه متمّماً حالاته الجنسية التي أنقصتها الأيام الخوالي.
ومن المثير ههنا أن نلفت القرّاء إلى تلاقٍ شيّق بين ختام رواية رشيد الضعيف هذه، وختام رواية حسن داوود "نساء وفواكه وأفكار"، التي يبحث فيها الراوي "محمد صافي" السبعيني، المدرك دنوّ أجله بفعل المرض، عن حبيبة شبابه الأول، يوم دخوله كلية التربية. والروايتان متزامنتان في الصدور. لعلّها صدفة غير مقصودة، مثلما هو الخطأ غير مقصود، خطأ الفطام أم خطأ التخييل المقصود؟