للمقاهي جاذبية خاصة لدى كثير من المثقفين المصريين، حتى بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، ومنهم مثلاً أدباء يعتبرونها المكان الأنسب لتدفق كتابتهم الإبداعية، وآخرون يعدونها بمثابة صالونات ثقافية وساحات للنقاش الحميم بين أصدقاء وحتى أمكنة مناسبة لعقد ندوات أدبية وفكرية وأمسيات شعرية وغنائية، حتى اشتهر بعضها بأنه مقهى للمثقفين.
ويتميز وسط القاهرة بعدد من المقاهي التي أشتهرت بأنها مقاهي المثقفين، أقدمها على الإطلاق مقهى "ريش" الذي يزيد عمره على مئة سنة، ولطالما شهد لقاءات هادئة وأخرى صاخبة لعدد كبير من الأدباء، أبرزهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأمل دنقل. وهناك أيضاً "زهرة البستان"، و"سوق الحميدية"، و"الندوة الثقافية"، و"الحرية"، و"السرايا"، و"المشربية"، فضلاً عن مقاه أخرى في مدن كبرى مثل الإسكندرية والمنصورة ودمياط ودمنهور وطنطا والأقصر وأسوان. فحيثما يوجد مثقفون توجد مقاه تجذبهم.
ولكن في ظل إغلاق المقاهي ضمن الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي فيروس كورونا، بات هؤلاء المثقفون في عداد المحرومين من واحدة من أهم متعهم في الحياة، فلجأ بعضهم إلى خلق ما يمكن اعتباره مقهى افتراضياً، فيما قبع آخرون في بيوتهم، آملين أن تنزاح الغُمَّة قريباً ويعودون إلى مقاهيهم.
الشاعرات هدى عمران وزيزي شوشة وأمل إدريس هارون، من بين فريق "نسائي" أسَّس قبل أيام ما أطلق عليه "الكارنتينا"، وهي مدوَّنة؛ أو "مجلة صغيرة"، أو مقهى "فيسبوكي"؛ "ضد فكرة نهاية العالم". وجاء في التعريف بها: "مهتمة بالفن والأنثربولوجي. نسعد بتبادل الآراء والأفكار في هذه الظروف الغريبة، بما يعكس اهتماماً ببداية جديدة للعالم".
أما الكاتب عماد العادلي، فأطلق ما أسماه "الرواق الفلسفي المصور". ويقول صاحب كتاب "حكايات حارس الكتب": الفكرة تقوم على نشاط تفاعلي؛ هدفه تبسيط المفاهيم الفلسفية وجعلها مستساغة للمتلقي العادي وأيضاً إزاحة اللبس والغموض المحاط بمصطلحاتها، ومحاولة لتبرئة ساحة الفلسفة مما علق بها من اتهامات من أول أنها باب للكفر والإلحاد، وصولاً إلى أنها تحيا في برج عاجي. أنطلق من سعي إلى ربط الفلسفة بالحياة المعاشة من دون إهدار هيبتها". ويضيف العادلي: "نظراً للظروف التي يمر بها العالم كله ولصعوبة التواصل المباشر مع الناس فكرت في عمل الرواق مصوراً وإذاعته عبر الوسائل الإلكترونية وقد لاقى الأمر استحساناً ملحوظاً عند الإطلاق التجريبي. أقوم الآن بالإعداد لجعل هذا الرواق الإلكتروني دائماً بعد انزياح غمة الكورونا، وذلك بجوار الرواق المباشر مع الناس".
في ظل الكورونيالية
أستاذ علم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون المصرية ووزير الثقافة السابق شاكر عبد الحميد، فاجأ الوسطين الثقافي والأكاديمي بابتكار مصطلح "ما بعد الكورونيالية"، ونشر بشأنه مقالين حققا تفاعلاً ملحوظاً على "فيسبوك". ومعروف عن عبد الحميد أنه من أشهر مرتادي المقاهي، وفي ظل الإغلاق الجبري الراهن يقول: "هناك أماكن كثيرة يمكن للإنسان أن يعمل من خلالها عن بُعد، مثل البنوك والاتصالات والدراسة الجامعية، بل وحتى بالنسبة للعبادة، إذ يمكنه أن يصلي بمفرده. لكن هناك أماكن لا تكتسب روحها إلا بوجود الناس معاً. أول هذه الأماكن المقهى. فالمقهى مكانٌ للوجود معاً ومن ثم يصعب أن يتخيل الإنسان وجوداً آخر مثله. هناك روح في المقهى يصعب أن تجدها في غيرها. فالمقهى مكان للحنين والذكريات ومعرفة الأخبار وتبادل الآراء والنميمة وشرب الشاي والحِلبة الحصى وتدخين الأرجيلة وإهداء الكتب والاتفاق على نشر المقالات واستقبال ضيوف المؤتمرت ومعارض الكتب واللقاء معهم والحديث عن آخر الاصدارات وقول ما لا يمكن قوله عبر الهواتف ومواقع الاتصال الاجتماعي المراقبة أمنياً. وعليها يلتقى شباب الأدباء والفنانين التشكيليين والسينمائيين بالكبار الراسخين. وعلى المقهى قد تلتقي فجأة صديقاً لم تره منذ سنوات طويلة، وقد تشاهد مباريات ليفربول ومحمد صلاح وقد تعقد ندوة أو تجمعاً. أنا افتقد جلوسي مع الأصدقاء على المقهى. لعن الله الكورونا ومن قام بتخليقه، فحرمنا من المقهى ولقاء الأصدقاء. وبالطبع وكما قلت: يستحيل أن يكون هناك مقهى عن بُعد، بينما قد يكون هناك تعليم عن بعد وصلاة عن بُعد ومعاملات بنكية عن بُعد بل ومراسم عزاء عن بُعد أيضاً".
ويقول رئيس تحرير مجلة "إبداع" القاهرية الشاعر إبراهيم داود: "المقهى بالنسبة لي؛ ليس فقط المكان الذي التقي فيه أصدقائي، أو أذهب إليه للعب الطاولة (التي أعشقها). المقهى جزء عزيز من عمري، هو الحضن الدافئ للغرباء، هو ضابط الإيقاع في لحن الحياة الذي لم يكتمل، هو مكان الاستحمام بالألفة، ليس حالة ثقافية مفتعلة كما يتصور المتحذلقون الذين يذهبون إليه مرة كل أسبوع. المقهى هو الأوقات كلها، هو الاستثمار في معرفة الناس والإصغاء إلى أحلامهم البسيطة العظيمة". ويضيف: "لكل مقهى بصمة على الروح، كل منطقة لها طعمها، لكل زمن مقهى، ولكل فصل من فصول السنة، تتعلم هناك تفادي الناس أو الهروب فيهم. المقهى لا مفاتيح له، ولهذا نذهب إليه. يوجد مكانٌ في العالم يرحب بك في كل أحوالك، لا يستغرب وجودك، ولا يغلق الباب فى وجهك. أنت الآن لستَ في حاجة إلى البحث عن مكان آخر. أنت في بيتك، تتحسر على غياب الحكايات والإيماءات والمعارك الجانبية وايقاع "القواشيط" والزهر بين أشخاص يتركون همومهم خارج الطاولة؛ تتحسر على العمر الذي انكسر على البلاط".
بقعة البهجة
ويقول الأديب والباحث في العلوم السياسية عمار علي حسن: "لم أكن أحسب أن المقهى صار جزءاً من نفسي إلا حين أجبرني الوباء على الابتعاد عنه. كنتُ أسميه "بقعة البهجة"؛ إذ أرى مقهاي من شرفة بيتي، وأتابع أحياناً انصراف زبائنه مع رحيل الليل حتى يهدأ قليلاً، فأهبط إليه، حاملاً كتابي أو حاسوبي، وأجلس أحتسي مشروبي وأنفخ في نرجيلتي. أقرأ أو أكتب، سيان، المهم أنني مشمول برحابة المكان ودفء الجالسين، منقطع ساعة أو يزيد من الليل عن عزلة أو اجتناب أو خلوة أو ابتعاد صرتُ إليه منذ أن أحلتُ نفسي إلى التقاعد الوظيفي المبكر، وتفرغتُ للكتابة".
ويضيف صاحب رواية "شجرة العابد": "كان المقهى هو أكثر الأماكن التي تشعرني بأنني لست سجيناً مقهوراً على كل حال، لا سيما بعد أن ضاق الخناق عليَّ وعلى غيري، فلا ندوات ولا استضافات متلفزة، ولا استطاعة لدى الإعلام الجديد أن يملأ بعض فراغ جيل اعتاد الصحبة والألفة والقدرة على إيجاد الصفاء وسط ضجيج البشر وهمساتهم، التي تؤكد أن الحياة تمضي، وأن الغد يلاحق اليوم، ولا محالة آت. أرقب الفراغ الذي يتمطى أمام باب المقهى بينما تجاوره أشجار ترسل ظلالها إلى ساحته الأمامية التي كانت تتراص فيها الطاولات، بين ماء مرشوش بعيد العصر. كان شيء يلوح أمامي جلياً، ثم يختفي تدريجاً مع زحف المساء ثقيلاً، واقتراب موعد انطلاق حظر التجول". ويستطرد حسن: "يضيع هذا الفراغ المرئي وتنهمر الغربة المفعمة بوحشة وشجن وتمسي الساعات دهراً، ويستيقظ في الروح ذلك المقهى الذي أكاد أمسكه بيدي، لكنه لم يعد موجوداً، لم يعد مقهى، إنما هو طللٌ يقول إن بشرا كانواً هنا قبل أسابيع يملأون الليل بهجةً، ويفسحون لي مسرباً للمرور من سجني الاختياري إلى براح الحرية كل ليلة، فلا أنام مكسور الخاطر".
وتقول القاصة هند جعفر المقيمة في الإسكندرية: "الحديث عن المقاهي حديث ذو شجون هذه الأيام في ظل ما تسمى الجائحة؛ لم أكن أظن يوماً أن أعبر طريق البحر في المنشية لأجد المساحة التي يشغلها مقهى "البورصة التجارية" فارغة، والباحة الخلفية لمقهى ومطعم "ديليس" والمواجهة لميدان سعد زغلول والتي كثيراً ما شهدت مناقشات مثمرة مع الأصدقاء بعد جولة على باعة الكتب في محطة الرمل، كأنها لم تكن؛ الأكثر وقعاً على نفسي كان غلق "مقهى فاروق". صحيح أني لم أعتد الكتابة في المقاهي ولكنها دوماً كانت فرصة لمقابلة الأصدقاء من الأدباء وبخاصة القاهريين منهم... "مقهى فاروق" تحديداً من بين كثير من المقاهي الشعبية يوفر لك مناخاً محبباً يتآلف فيه الجميع، ويتقبَّل روادها من أولاد البلد جلسات المثقفين ومناقشاتهم، ولا ينزعجون من مجموعات طالبات الجامعة المتجمعات للدراسة أو لتناول غدائهم". وتضيف: "بالنسبة لي ظل مقهى فاروق الأكثر حميمية من حيث الأجواء العائلية. يعجبني أنها ظلت صامدة في زمن نجومية مقهى "ناصر السكندري"، فقد دأب السكندريون على تمييز المنطقة المحيطة به والتي تمتد من الكورنيش إلى الترام بـ"قهوة فاروق". تزينها صور الملك فاروق، وشعار الأسرة العلوية محفور على جوانبها. وبالمناسبة كان هذا المقهى مكاناً مفضلاً للكتابة لدى الكاتب الراحل جلال عامر". وتستطرد جعفر قائلة: "مثلما يحدث في مصر القديمة؛ فالمقاهي والمطاعم السكندرية الشهيرة تبث فيك روح المدينة، وأحياناً حين تتدلل عليَّ الأفكار أجد في تلك الأماكن ملاذاً يمدني بالكثير".
قاهرة الإغتراب
ويقول الروائي والأكاديمي طارق الطيب الذي يعيش ويعمل في النمسا واكتسب عادة الجلوس في مقاهي المثقفين من ارتباطه بمقاهي القاهرة: "فيينا مدينة عريقة أعيش فيها منذ أكثر من ست وثلاثين سنة. هي أجمل المدن عندي وفيها أبهى مقاهي الدنيا من وجهة نظري. أذهب إلى هذه المقاهي في المتوسط ثلاث مرات أسبوعياً وأقضي فيها ساعات طويلة، ويقع أغلبها بالقرب من محل سكني وعملي. أعشق الكتابة في المقاهي؛ المقاهي التي تشبه مقاهي فيينا الواسعة الرحيبة، وكثير من كتاباتي وُلِد فيها وسُجِّل باسم مقاهيها الأثيرة لديَّ. في هذه المقاهي الفييناوية أشعر في آنٍ أنني في بيتي وأيضاً خارج البيت، فترددي على هذه المقاهي جعل أصحابها يعرفونني وكذلك النادلات والندلاء فيها، فتنزل طلباتي المحفوظة وأنا منشغل في الكتابة من دون سؤال، وإن دخل صديق يعرفني؛ فهو لا يقاطع إلا للحظات قليلة ويتركني في شأني ولو رآني منغمساً في الكتابة فقد يلوح أو تلوح من بعيد فقط". ويضيف صاحب رواية "بيت النخيل": "أحد المقاهي الشهيرة هنا التي أزورها بانتظام منذ 1985 جاء بمصور محترف قبل سنوات وصوَّرني في مكاني الأثير، ووضع صورتي في إطار ضمن مجموعة صور رواد المقهى، من مشاهير الأدب والفن الذين يترددون على مقهاه".
ومن ناحية أخرى - يقول الطيب- ألتقي بالطبع بكثير من الصديقات والأصدقاء في تلك المقاهي، وفي فترة العزل التي دخلت الآن في أسبوعها السابع، أشعر بالحنين إلى اللقاء المباشر وعودة العين لرؤية الصديقات والأصدقاء، بعد أن أصبح للأذن السطوة الأكبر من خلال المكالمات. عندما بلغتُ الستين في بداية العام الماضي، أصدروا لي في فيينا أنطولوجيا صغيرة كما هي العادة لدى كُتّاب منتدى "بوديوم" النمساوي، وهي أنطولوجيا باسم الكاتب فقط من دون عنوان، على الغلاف توقيعه وفي الصفحة الأخيرة خط يده وداخل الكتاب أحدث صورة له. قدم لهذه الأنطولوجيا صديقي الكاتب والموسيقي النمساوي هيلموتنيوندلنجر، وقد عنون مقدمته كالتالي: (في مقهى الفكر- عن طارق الطيب وشعر اليقظة)، ذكر فيها أسماء بعض المقاهي التي أرتادها أنا في فيينا وحول العالم، وأنني قد أعدت لفيينا أدب المقاهي المعروف في القرن الماضي. ويختم الطيب قائلاً: "أنا في انتظار زوال كمامة اللقاء وتلاشي المسافات الاجتماعية المفروضة، ليعود لنا المقهى الجميل والكتابات والقراءات المفرحة، ولتعود السلامات والأحضان والقبلات القديمة، وليعود القلم يجري كما كان وأظنه سيكون بيقظةٍ أعلى مما مضى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زهرة البستان
وتقول الكاتبة نهلة كرم: علاقتي ككاتبة بالمقهى بدأت حين ذهبتُ لأقابل أستاذي مكاوي سعيد رحمة الله عليه للمرة الأولى. ذهبتُ إليه حينها لأمنحه نسخة من أول رواية كتبتها، قابلته في "جروبي"، ثم اصطحبني ليعرفني على مقهى "زهرة البستان" التي كان يقضي فيها أغلب يومه. بالنسبة لي كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أجلس فيها على مقهى، ولم أشعر بالراحة، كنت متوترة خوفاً من أن يراني أحد، فبالنسبة لأسرتي لم يكن جلوسي على مقهى أمراً عادياً أبداً، لكن بعد ذلك بدأ توتري يقل بالتدريج، بخاصة بعدما عملتُ بعد التخرج في الصحافة لبعض الوقت، وأصبح ذهابي إلى المقاهي لأقابل كُتاباً أمراً عادياً في بيتنا".
وتضيف صاحبة رواية "على فراش فرويد": "أصبح مقهى "زهرة البستان" بعدها مكاني الأساسي الذي أقابل فيه مكاوي وأعرض عليه كل ما أكتب، حتى رحل ولم أعد أتحمل الذهاب إلى هناك. عدتُ أشعر من جديد بغربة كلما مررتُ من هناك، واستبدلتُ جلوسي هناك بجلوسي في أماكن أخرى مع أصدقائي مثل "كوستا" الذي كنا نجلس فيه كثيراً أنا والكاتبة أريج جمال، أو مكتبة "ديوان"، أو أي كافيه آخر، فلا نجلس على مقهى بالشكل الذي تبدو عليه "زهرة البستان". لكن بغض النظر عن شكل المقهى الذي نجلس فيه، فنحن نفتقد يومياً جلساتنا وأحاديثنا والخطط التي كنا نضعها في كل مرة نذهب فيها إلى المقهى، وأصبح مقهانا الوحيد الآن هو "الواتساب"، فهو مكاننا الوحيد الآن لنقترح قراءة كتب، ولنشجع بعضنا على وضع خطط للكتابة".
ويقول الروائي رءوف مسعد المقيم في هولندا والذي اضطر إلى قطع زيارته الأخيرة للقاهرة والعودة إلى أمستردام بسبب كورونا، فألغيت مواعيد للقاءات اعتاد عليها في إجازته السنوية في "زهرة البستان" وغيرها: "حرمني تفشي الفيروس من مصر كلها. ليس كورونا وحده في واقع الأمر. يحرمني المناخ السياسي الكئيب والمقبض الذي يغلق المقاهي على سُمارها في مناسبات عدة على مدار العام. هذا مناخ يفرض كآبته على شعب يجد ملاذه في الضحكة العالية وتقاسم السندوتش والسيجارة. كورونا يمكن محاربته بالعزلة الاجتماعية مثلاً لكن حذاري من "التعزيل" الإجباري للمصريين، فقوتهم في جمعهم". ويضيف صاحب رواية "بيضة النعام" والذي بلغ الثالثة والثمانين من عمره: "طقس الجلوس في المقهى يمثل لي حرية أبحث عنها دوماً، بخاصة أنني جربتُ السجن يوماً. السجن يحرمك ليس فقط من حرية من تؤاكل ومن تجالس لكن من الحرية الأكبر وهي اختيار أين تجلس وأي مكان تحبه وأي ضجيج تختاره. المقهى يتحول بالتدريج إلى مكان يخصك. بل أن طاولة بعينها ومقعد بعينه يتحولان إلى شيء تنزعج إذا استخدم أي منهما أحدٌ غيرك. هو ليس فقط المكان الذي يذكرك بحقك في اختيار مَن تقابل ومن ترفض مقابلته. بحقك الإنساني في اختيار المكان الذي ترتاح فيه؛ بما أن المقهى هو نقيض السجن".
رُبَّ ضارةٍ نافعة
ويقول الروائي نعيم صبري: "الحقيقة أنا لا أنظر للموضوع على إنه حرمان للمثقفين من المقاهي ولكنه حماية للمجتمع من وباء سريع الانتشار عبر إجراءات فرضتها كل حكومات العالم لحظر التجمعات في المقاهى والمطاعم". ويضيف صاحب رواية "شبرا": "بالنسبة لي، فأنا زائر جديد لـ"زهرة البستان" يوم الجمعة من كل أسبوع. حدث هذا منذ عامين أو ثلاثة بدعوة من أحد الأصدقاء الذي كان يمر عليَّ ليصحبني إلى هناك، ثم بدأت أتردد عليها بنفسي لفترة قصيرة قبل أن انقطع عن ذلك طوعاً منذ عام، وعموماً أنا لا أفضل المقاهي ولكن تستهويني الأماكن الحميمة الهادئة وليس بانتظام، فأنا كائن بيتي كسول على وجه العموم. لعل السبب في ذلك هو التقدم في العمر المصحوب بتنامي الرغبة في الهدوء والعزلة نسبياً".
الفنان التشكيلي والمخرج السينمائي وحيد مخيمر، طرح مبادرة "الفن للخير" ونجح في إقناع وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم بتبنيها، وتقوم على مساعدة مصابي كورونا والمتضررين من تفشيه عموماً، بعرض أعمال تشكيلية وفوتوغرافية بالأبيض والأسود لأكثر من مئة فنان ومصور عبر الإنترنت للبيع بواسطة مزايدة، على أن تذهب الحصيلة إلى صندوق "تحيا مصر" ليوجه باستخدامها في الغرض الذي من أجله جرى تدشين تلك المبادرة. ويقول مخيمر: "علاقتى بمقاهي وسط البلد بدأت أثناء دراستي في كلية الفنون الجميلة. كنا نذهب إلى أتيليه القاهرة حيث توجد قاعة للعرض، فضلاً عن حديقة أشبه بالمقهى كانت ولا تزال تعتبر ملتقى للأدباء والفنانين والمثقفين عموماً. قابلت هناك المخرجين الراحلين صلاح أبوسيف ويوسف شاهين والممثلة عقيلة راتب وزوجها الملحن والمطرب حامد مرسي، والفنانين حسن سليمان وحسين بيكار والأديب الكبير نجيب محفوظ".
ويضيف مخيمر: "على بعد أمتار من الأتيليه وجدنا في مقهى "ريش" الشاعرين أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي والقاص يحيي الطاهر عبدالله والممثلين توفيق الدقن وعبد السلام محمد. تنقلنا بعدها بين المقاهي المختلفة مثل مقهى "علي بابا" الذي يسهر للصباح، و"أسترا" الذي يقدم عروضاً مسرحية. وهكذا بدأ الارتباط بالمقهى ليس كمكان للحكي أو تناول المشروبات، ولكن كمنهل ثقافي شديد التنوع. ومع ظهور المقاهي المودرن، ظل المقهى في شكله التقليدي جاذباً حتى لمَن خرجوا من القاهرة إلى المدن الجديدة المحيطة بها أو حتى لمن هاجروا مثل جميل عطية إبراهيم. ولكن رب ضارة نافعة، فالوقت أصبح أكثر اتساعاً للفنانين والمبدعين لنيل استراحة محارب يستكشفوا خلالها ما كان وما يجب أن يكون في أعمالهم وعلاقاتهم وأفكارهم".
مقهى شاهين
ويقول القاص والروائي سمير الفيل المقيم في مدينة دمياط في شمال مصر: "كنا ننتهز شهر رمضان من العام للعام لنعقد جلساتنا الأدبية على المقاهي، فحين تكون السهرة ممتدة، نقرأ نصوصاً قصصية أو قصائد أو مقاطع من روايات، ونلقي الضوء النقدي على تلك الأعمال في جو حميمي، يغلب عليه الدفء الإنساني، والترابط الاجتماعي، والألفة". ويضيف: "في مدينتي دمياط، كنا نذهب للسرادق الثقافي اليومي الذي يستمر حتى ليلة العيد، فنشاهد فرقاً استعراضية، منها على سبيل المثال فرقة محمد عبدالوهاب للموسيقى العربية بالمنصورة، وفرقة الشرقية للفنون الشعبية بالزقازيق، وفرقة الآلات الشعبية بكفر البطيخ، وغيرها من فرق زائرة، نشارك معها بقصائدنا الشعرية وشهاداتنا السردية... باختصار كان هناك زخم ثقافي وفني يشاركنا فيه محبو الثقافة من أهل وجيران، وكانت المقاهي تشهد ازدهاراً حقيقياً حين نتحلق حول كاتب زائر أو فنان مسرحي لنعقد معه حلقة بحثية تفيدنا في معرفة شتى التجارب الفنية والموسيقية والتشكيلية". ويستطرد الفيل: "ولما كان الشيء بالشيء يذكر فإنني أتذكر جلسة الشاعر طاهر أبو فاشا وهو الذي نقل "ألف ليلة وليلة" من بطون الكتب التراثية إلى الإذاعة المصرية من إخراج محمد محمود شعبان "بابا شارو". كان يأتي ليجلس في مقهى "شاهين" في قلب سوق الحِسبة مع أصحابه ومريديه الأدباء حيث تكون الحكايات والقفشات والمرويات الشفاهية حول ظرفاء العصر. أذكر اليوم الذي صحب فيه صديقه الملحن سيد مكاوي الذي دندن على العود أغنيته البديعة: "على دمياط، هيلا هاللا"، وشخصياً، استفدتُ من العزلة في كتابة مجموعة قصصية جديدة اخترت لها عنواناً مؤقتاً، هو: "قهوة على الرائحة"، ويا لها من مفارقة غريبة".
ويقول الشاعر مصباح المهدي: "ألزم بيتي محروماً من بعض الطقوس والعادات ومنه (قعدة) المقهى. المقاهي في مصر كالناس؛ مختلفة، منها الأرستقراطي ومنها الشعبي ومنها الشعبي بامتياز، ومنها ما لا يجتمع فيه غير النخب المثقفة. وأنا شخصياً تأنس نفسي وترتاح وتجد الروح في المقاهي التي يرتادها عامة الناس الذين أجدني منهم وأجد نفسي فيهم. أجدني كما لو كنت في برلمان يمثل المهمشين أدخن الشيشة غير عابئ باحتياطات الأمان، وألعب الطاولة مع من أجد من زملائي في هذا البرلمان/ المقهى نفرقع (بالقواشيط) في خشب المقهى، فيما يجلجل صوت (سيد) عامل الأرضية ليسمعه عامل (النصبة) مملياً عليه قائمة الطلبات الواجب تجهيزها. صخب يوازي صخب الأرواح المعذَّبة داخل أجسادها التي استهلكتها طرق البحث عن لقمة العيش".