منذ استقراره في الولايات المتحدة الأميركية سعى الفنان المصري رضا عبد الرحمن إلى أن يكون فاعلاً في محيطه، فأسس مع آخرين أول منظمة ثقافية للعرب الأميركيين، وهي تضم أعضاءً من كافة الولايات الأميركية، وتعد نواة لإقامة فعاليات وأنشطة فنية خاصة للفنانين من أصول عربية. يحلم الفنان كذلك بتأسيس أول متحف للفن العربي المعاصر في نيويورك من خلال المنظمة العربية الأميركية للثقافة، والتي كانت الراعي الرسمي لمعرضه الأخير الذي أقيم في مركز الفن المعاصر في مدينة نيويورك في شهر فبراير(شباط) الماضي.
كان من المقرر أن يستمر المعرض لعدة أشهر قادمة، تكون حافلة بلا شك بالأحداث واللقاءات، فهي فرصة حقيقية للالتقاء بجمهور عريض من الفنانين والنقاد من كافة الولايات الأميركية. لكنّ ما لم يضعه الفنان في الحُسبان هو انتشار وباء كورونا على نحو سريع في الولايات المتحدة ، وخاصة في نيويورك، التي تحولت إلى بؤرة من بؤر الوباء هناك. بعد أيام قليلة من افتتاح المعرض تلقت قاعة العرض أمراً بالإغلاق وتعليق نشاطها مثل العديد من المؤسسات الثقافية الأخرى كإجراء وقائي للحد من انتشار العدوى. كان على عبد الرحمن ككل الفنانين المقيمين في الولايات المتحدة الانصياع إلى ما فرضته الأوضاع الحالية من عزل وحد من الحركة. لم يكن الأمر سهلاً بالطبع كما يقول الفنان، فكل خططه المتعلقة بالعرض صارت هباءً، وقضى فيروس كورونا على أحلامه كما يقول. ظل الفنان يراقب المدينة الصاخبة وهي تتحول أمام عينيه شيئاً فشيئاً إلى مدينة أشباح، شوارع تملأها أضواء الإعلانات، بينما توارى البشر عن المشهد. كان الأمر قاسياً بالفعل، غير أن الأكثر قسوة حين أصيب الفنان نفسه بفيروس كورونا، واضطر للإقامة الجبرية والانعزال في مُحترفه الصغير بناءً على نصيحة الأطباء، وهكذا تحول المكان الذي كان يحب قضاء وقته فيه إلى سجن، لا يُؤنس وحدته سوى الخوف والهواجس الثقيلة، يضاف إليه قلقه على أسرته الصغيرة التي بات لا يتواصل معها إلا عبر الهاتف.
يقول الفنان: "أكثر ما يقلقك في المرض ليس آلامه، لكنها هواجس الموت التي تطاردك ليل نهار، يضاف إلى ذلك افتقادك الحرية التي كنت تنعم بها ولم تدرك قيمتها في حينها، كالخروج لاحتساء قهوة الصباح، أو متابعة عرض جديد في أحد المتاحف، أو حضور حفل موسيقي، أو حتى دخول مكتبة الحي والتجول بين الشوارع، فكل هذه التفاصيل صارت أحلاماً مع مرور الوقت". مازال الفنان يقيم في عزلته بعد تجاوزه للمرحلة الأصعب من أعراض المرض، لكنه يستعد في ترقب كذلك إلى ما هو قادم، فهو على يقين بأن هذه الأزمة ستدفع حتماً نحو اتجاهات جديدة في الفن، إضافة إلى ما ستُحدثه من مُتغيرات على الصعيدين السياسي والاجتماعي أيضاً.
لم يكن الفنان المصري هو الوحيد الذي تأثر بأزمة كورونا بين الفناين العرب، فقد طاولت الأزمة الجميع بلا استثناء، وهم يحاربون اليوم من أجل الاستمرار تحت ضغط كورونا والغربة معاً. الفنان العراقي قيس السندي المقيم في كاليفورنيا تعرض هو الآخر لموقف مشابه لما تعرض له رضا عبد الرحمن، إذ تأجل معرضه الذي كان مقرراً أن يقام في لندن تحت عنوان "لماذ تركت الحصان وحيداً" إلى موعد غير محدد بسبب وباء كورونا. يرى السندي أن أزمة كورونا التي أصابت جميع مرافق الحياة كان لها تأثير كبير في حقل الفنون والمعارف، وكانت أشد وطأة على الفنان العربي المُغترب، وخاصة هؤلاء الذين يعتمدون على نحو كامل على الفن في تأمين مصدر عيشهم، ففي مثل هذه الأزمات الكُبرى يتحول الفن إلى كماليات ورفاهية، ويُحجم الناس عن الاقتناء، فالأولوية هنا للبقاء وحماية النفس من العدوى، ولا أحد يعرف على وجه اليقين كما يقول الفنان متى سيتمكن سوق الفن من التعافي من هذه الأزمة الطاحنة التي ألمت به.
لا يترك قيس السندي نفسه فريسة للأفكار المتشائمة، فهو يرى في هذه الأزمة بعض الإيجابيات التي يمكن استغلالها، كتفرغ الفنان لعمله، ناهيك عن أن الأزمة بهيئتها العالمية تلك تفتح أمامه آفاق التفكير في موضوعات أخرى، ربما كان الفن قد تجاهلها أو نسيها، من أهمها مثلاً وحدة المصير الإنساني، فالمأساة الحالية هي الوحيدة منذ قرن التي اصابت البشر جميعاً، من دون تفرقة بين أعراقهم أو أجناسهم كما يقول، لذا فهناك شعور جمعي متزايد بأننا جميعاً في خندق واحد. يأمل السندي أن يتحول هذا الشعور إلى فعل حقيقي على أرض الواقع، ويلتفت البشر إلى التحديات المُشتركة التي تُحيط بهم.
بين الفنانين المُقيمين في الولايات المتحدة أيضاً الفنان المصري أحمد الشاعر والذي سافر إلى هناك لاستكمال دراساته العليا. أثناء إقامته في الولايات المتحدة عمل الشاعر كذلك كمدرس حُرّ في مُتحف الصورة المُتحركة في مدينة نيويورك. تأثر الفنان بالأزمة كغيره بعد أن قررت إدارة المُتحف الاستغناء عن المدرسين المستقلين مكتفية بالموظفين الرئيسيين، كالمديرين ورؤساء الأقسام وبعض الكوادر الأساسية، كما استعاض المتحف عن فكرة التعليم المباشر بالتعليم عن بُعد في مقابل أجر رمزي للمدرسين، وهو أمر لا يكفي للإعاشة بالطبع. يقول الفنان إن حوالى نصف المنح المُخصصة للمتاحف والمؤسسات في الولايات المتحدة توقفت بعد الأزمة مباشرة، ونتيجة لهذا فقد المئات من الفنانين مصدر دخلهم، وبينهم فنانون كُثُر كانوا يعتمدون على وظائف التدريس في المتاحف أو الإقامات الفنية، وقد لجأ أغلبهم إلى برامج منح البطالة، غير أن هذه البرامج كما يقول الفنان مُخصصة للمواطنين الأميركيين فقط وليس المهاجرين أو المُقيمين بشكل مؤقت للدراسة مثلاً. ويزيد من تعقيد الأمر بالنسبة لهؤلاء سياسة الرئيس دونالد ترامب المعادية للأجانب. ما يُخفّف وطأة الأمر قليلاً كما يقول الشاعر هو اتجاه عدد كبير من المؤسسات الثقافية في الولايات المتحدة إلى دعم الفنانين أياً كانت جنسيتهم أو خلفيتهم. غير أن الفنان يشير أيضاً إلى أن هناك المئات من الطلبة المصريين والعرب قد وجدوا أنفسهم في مأزق كبير بعد تعليق المؤسسات التعليمية والجامعات لنشاطها، وكثيرون منهم باتوا عالقين بسبب عدم قدرتهم تحمل كلفة العودة إلى أوطانهم من ناحية، وتخوفهم من ضياع فرصهم في استكمال الدراسة من ناحية أخرى، ولا خيار أمامهم الآن سوى الأمل والرجاء في انقشاع هذه الغُمة قريباً.