الانقسامُ الجديدُ الذي طال الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة أخيراً (وهي فصيلٌ من شرق السودان ضمن الفصائل المكوِّنة الجبهة الثورية التي تفاوض حكومة الخرطوم في منبر جوبا للسلام) بين رئيس الجبهة الشعبية الأمين داؤود من جهة، والأمين العام الجديد للجبهة خالد شاويش من جهة ثانية، هو انقسام يعكس مسار الطبيعة الهشَّة التي يمكن أن يدخل فيها ذلك الاتفاق، الذي وُقِّع في فبراير (شباط) الماضي.
يبدو أنّ ثمّة إشكاليات جوهرية صاحبت الطبيعة التأسيسية للجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، سواءً من حيث التعثر في استكمال هياكلها التنظيمية، أو من حيث الاستعجال الذي طبع ذلك الاستكمال والعناصر التي دخلت في مكوناته، أو حتى من حيث البرامج والتصوّرات في خطابها وعملها العام.
فمن المعروف أنّ هذا الاتفاق الذي وُقِّع من قِبل الحكومة السودانية من ناحية، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة وحزب مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد من جهة ثانية، كان قد لقي معارضةً من مكوّنات حزبية سياسية محلية في شرق السودان، ومن ناشطين في الإدارة الأهلية المسيّسة كذلك.
وكان من أسباب ذلك الاعتراض: تداعيات ندوة أقامها رئيس الجبهة الشعبية الأمين داؤود في مدينة بورتسودان خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. تجاوز فيها داؤود قراراً حكومياً بتأجيل الندوة صادراً عن اللجنة الأمنية وعن والي البحر الأحمر (وكان قرار التأجيل، وليس إلغاءها، من أجل امتصاص الاحتقان الذي شهدته المدينة على خلفية اقتتال أهليّ وتهدئة الأوضاع فيها)، إلا أنّ إصرار الأمين داؤود على إقامة الندوة السياسية جرَّ تداعيات مؤسفة، إذ شهدت مدينة بورتسودان احتكاكات بين مكوّنين قبليين عقب الندوة، سقط فيها عددٌ من القتلى من الطرفين.
وهو الأمر الذي استدعى بعد ذلك فتح بلاغ من طرف ولاية البحر الأحمر ضد الأمين داؤود، ما تسبب في إحراجٍ لموقفه، وأثر في دوره بقيادة المفاوضات التي كانت مستمرة بمدينة جوبا (عاصمة جنوب السودان).
بعد بيانات الإقالات المتبادلة في فبراير (شباط) الماضي، شهدت الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، أخيراً في أبريل (نيسان) الماضي، بيانات أخرى، إذ اعتمد مكتب الجبهة خالد شاويش أميناً عاماً لحين انعقاد المؤتمر العام بعد ثلاثة أشهر، بينما قام الأمين داؤود بتكوين مكتب قيادي جديد للجبهة، الأمر الذي بدا معه هذا الانقسام مثيراً سؤالاً كبيراً هو: مع مَنْ ستتفاوض حكومة السودان من أجل إنفاذ اتفاق الشرق؟
في تقديرنا، إن ما يحدث في الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة لا يعكس روح المسؤولية، ولا يعبّر، حتى الآن، عن أمل لمنطقة شرق السودان التي هي أفقر إقليم بالسودان، مع أنه إقليم جيوسياسي وغنيّ بموارده. لا سيما أن القوى السياسية الأخرى الممثلة في أحزاب مؤتمر البجا منقسمة هي أيضاً، إلى جانب أحزاب أخرى صغيرة، ليست أفضل حالاً.
إنّ خريطة الانقسام السياسي للمكونات الحزبية في شرق السودان، والتباسها بممارسات لكيانات قبلية تعكس أزمة مستقبلية عميقة لمآلات الوضع السياسي في الشرق مع الأسف. وعلى الرغم من أنه بات في حكم الواضح، أنّ الأمين داؤود أصبح اليوم خارج دائرة طرف التفاوض السياسي مع حكومة السودان، في منبر جوبا، فإنّ المفارقة التي ستنعكس في هذا الحدث هي أن داؤود كان صاحب امتياز أحد أطراف مسار الشرق بمفاوضات جوبا عبر مقعد الجبهة الشعبية المعتمد في جسم الجبهة الثورية المعارض على مدى سنوات الكفاح المسلح، وهو كذلك من التفت حوله جماهير كثيرة من مكوّن أهلي محدد في شرق السودان، ما يعني كذلك أن ثمة ترتيبات جرت وراء الكواليس سواء داخل الجبهة الثورية، أو من داخل وفد الحكومة لتعويم خالد شاويش وعبد الوهاب جميل، بدلاً من الأمين داؤود.
بطبيعة الحال، يتعين على الأمين داؤود تسوية المسألة القانونية المتصلة بالبلاغ المفتوح حوله، وإن كنا نظن أن تحميله المسؤولية الكاملة في تفجير الأوضاع الأمنية واحتقانها في بورتسودان ليس كل الحقيقة، ولا يخلو من مزايدات سياسية. فلا شكّ أنه أخطأ خطأ سياسياً واضحاً بتجاوز القرار الحكومي القاضي بتأجيل ندوته في بورتسودان نوفمبر الماضي، لكن احتقان الأوضاع الأمنية والاقتتال الأهلي بين اثنين من مكوناتها كانا من تدبير قوى الثورة المضادة وجهاز الأمن في بورتسودان منذ يونيو (حزيران) الماضي، ثم في أغسطس (آب) الماضي، أي قبل زيارة الأمين داؤود مدينة بورتسودان التي كانت في نوفمبر الماضي.
لقد صرّح الأمين داؤود بأنه سيأتي إلى السودان، وسيمتثل إلى أمر القضاء، لثقته بالقضاء السوداني، ما يعني أنه مستعدٌ لمواجهة التهم التي وجِّهت إليه، وذلك من أجل إغلاق هذا الملف والالتفات إلى العمل السياسي، فالأمين داؤود يحظى بكاريزما واضحة بين مؤيديه وأنصاره، وربما يكون في الخرطوم خلال الأيام المقبلة. لكن السؤال سيطرح نفسه: كيف يمكن إنفاذ ترتيبات اتفاق شرق السودان، إذا ما تعقّدت الأمور بين مكوني الجبهة الشعبية المتحدة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تقديرنا، إنّ المَخرج من هذه الأزمة البنيوية لأشغال السياسة الشاقة في شرق السودان، وما تنذر به من تداعيات واحتقانات، يحتاج إلى تدخل جراحي كبير من قوى الثورة المركزية، أي قوى الحرية والتغيير والحكومة الانتقالية والمجلس السيادي، بعد أن بدا واضحاً شبح الانقسام الذي سمم المكونات الحزبية في شرق السودان، وعلى رأسها حزب مؤتمر البجا، (رأينا كيف فشل المؤتمر التشاوري لأهل شرق السودان من قبل، وكتبنا مقالاً عن فشله حتى قبل أن يبدأ).
اليوم، نرى أنّ المؤتمر القومي لشرق السودان الذي أقرّته مصفوفة المهام العاجلة للمرحلة الانتقالية (وهو غير المؤتمر المنصوص عليه في بنود اتفاق الشرق) هو المخرج من سيرك الألعاب السياسوية غير المسؤولة في ممارسات الأجسام والكيانات الهشّة التي تتصدى لقضايا السياسة في شرق السودان، إذ لا بدّ من أن يوفر المؤتمر القومي لشرق السودان منصة قومية جيدة لإعادة ترتيب وتنظيم القوى السياسية للشرق بطريقة تقطع نمط الأساليب القديمة لحكومات النظام السابق، تلك الأساليب التي لعبت دوراً كبيراً في تخريب البيئة السياسية والقوى الحزبية في شرق السودان، ولا تزال آثارها ماثلة.
كما نرجو أن تكترث الحكومة لأصوات وشخصيات سياسية وطنية وازنة في شرق السودان (وهي أصوات موجودة بين كل مكونات شرق السودان)، فهي التي في مقدورها طرح رؤى واستحقاقات شرق السودان عبر روح وطنية بعيدة عن المحاصصة وعقليات القبيلة والغنيمة التي خرّب بها النظام السابق روح السياسة في شرق السودان والسودان كافة.
وكذلك من الأهمية بمكان أن ينال شرق السودان نصيباً كبيراً من مهام البعثات الأممية التي طالب بها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ضمن البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وجرى التوافق عليها بين مجلسي السيادة والوزراء وقوى الحرية والتغيير في 25 أبريل (نيسان) الماضي، من أجل بناء عمليات السلام والمساعدة في تقديم الدعمَين الفني والسياسي في قضايا التنمية والديمقراطية.
ربما يتعين على إقليم شرق السودان أن يستبشر بالثورة السودانية التي تسعى حكومتها للمرحلة الانتقالية بقيادة حمدوك إلى إقرار بنيات مؤسسية وقواعد لتأسيس مبادئ التنمية العادلة حسب استحقاقات بند التمييز الإيجابي، الذي لا نرى إقليماً أولى به من شرق السودان.