لم تنكسر نرجسية الإنسان فحسب أمام الاكتشافات العلمية الكبرى، وعلى رأسها "الداروينية"؛ التي استحدثت تاريخاً ملطخاً للكائن الوحيد الذي قالت الأديان إنه مخلوق على صورة الله، لكن انكسارات العلم تبدو أقل قسوة لأنها أكثر فهماً. ربما لذلك بدا عصف الطبيعة بأبنائها عبر وباء كورونا مزلزلاً لحقائق وقناعات أخطر ما فيها الانهيارات الاجتماعية الكبرى التي حذرت منها مؤسسات دولية ومفكرون ومثقفون في أرجاء العالم. لكن ربما كان تدني منسوب المسؤولية الأخلاقية لدى الساسة ورجال المال هو أظهر تلك الوجوه وأخطرها. فلم تكن صفاقة التصريحات التي تحدثت عن ترك البشر نهباً لما أسماه الساسة مناعة القطعان هو أخطر ما في الأمر، وتظلّ مساحات التزييف التي لحقت بالنظرية الداروينية بين أبرز وجوه ذلك السقوط. فـ"داروين" نفسه لم يقصد إلى أن تتحوّل نظرية الانتخاب الطبيعي، إلى نظرية تشمل الإنسان بكل ما يملك من جبرية أخضعت لسلطانها ما هو أعتى من العاصفة الكورونية.
البقاء للأقوى
من هنا، بدا هذا الاستخدام المزيف للنظرية منطوياً على أعلى درجات العنف الـ"ضد بشري". كان داروين يقصد بفكرته الحفاظ على التمايزات التي تتبدّى على الكائنات بما هي عليه، وأظن أن قارئ كتاب "أصل الأنواع" لن يعثر على أثر لأي استخدامات سياسية لفكرة "البقاء للأصلح"، غير أن الساسة كانوا يملكون من الصفاقة ما يجعلهم يضيفون تعديلاً بسيطاً للفكرة لتصبح "البقاء للأقوى"، وذلك تعبيراً عن تصورات سياسية خرقاء كان يخشى كبار مفكري الغرب من سيادتها في لحظة ما، لإدراكهم أنها تقوّض العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه الدولة الحديثة.
ومنذ منتصف القرن السابع عشر، حذر "توماس هوبز" في نظريته "حالة الطبيعة" مما أطلق عليه "حرب الجميع ضد الجميع"، وذلك للبحث عن حل إنساني لفكرة استخدام القوة المدمرة ونتائجها المروعة والإيمان بالمزيد من التعاون في مواجهة الأوبئة والحروب. ولن يحتاج المرء إلى جهد استثنائي لاكتشاف الأبعاد السياسية للأزمة الراهنة، سواء كان ذلك في الصراع الصيني- الأميركي على نحو خاص أو في صراع الثقافتين الشرقية والغربية على نحو عام، وهو الأمر الذي ربما تعضّده مقولة "جوردن هيوز" إن "ما يؤلم الغرب هو ثبات مواقع الحضارات التاريخية، وهو ما يحتاج إلى تغيير حتمي". فهل كانت البداية بالصين تحقيقاً لتلك النبوءة؟
على كل حال، لم يفلت تعريف سياسي واحد لأزمة كورونا من قبح المقارنة بين موت الاقتصاد مقابل موت الإنسان، ولم يكن مدهشاً أن يتحدث تلميذ في مدرسة السياسة المصرية يعمل متحدثاً باسم مجلس الوزراء ليقول، على رسل معلميه في مصر وخارجها، إن عجلة الاقتصاد لا بد أن تستمر في الصعود لأن انهيار الاقتصاد أخطر من انهيار النظام الصحي! على أن عجلة الاقتصاد تلك التي يتحدث عنها لم تنقذ البشرية مما تعانيه منذ عشرات السنين. فطبقاً لإحصائيات الأمم المتحدة يموت في العالم سنوياً 280 ألف طفل من الجوع وسوء التغذية، وثلاثة مليارات إنسان يعيشون من دون صرف صحي، ومليار ونصف المليار يشربون مياهاً ملوثة، ومليار وربع المليار لا يجدون مسكناً يليق بآدميتهم، ونصف مليار لا يتوفّر لهم الحد الأدنى من الغذاء اليومي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدواء القاسي
في كل الأحوال، فإن ثمة حديثاً بات رائجاً في دوائر عالمية عدة عن استعادة نظرية سكانية قديمة تحدّث عنها الاقتصادي الفرنسي "فرنان برودل"، منتهاها أن كل انحسار سكاني يحل طائفة من المشكلات ويقضي على مجموعة من التوترات ويمنح من يبقون على قيد الحياة ميزات لحياة أوفر. ثم يعقّب على ذلك بقوله "إنه دواء قاسٍ، لكنه دواء على أية حال!"، ويضرب مثالاً على ذلك بما خلّفته موجة الطاعون الأسود في منتصف القرن الخامس عشر التي انتهت بتمكين عدد قليل من البشر ممن تبقوا على قيد الحياة من معظم الأراضي المزروعة. وعندما يحاول برودل التخفيف من وقع حديثه هذا، يردف بأن "العلماء عندما يتحدثون على هذا النحو لا يتحدثون كبشر، بل كمخططين يعملون في الجحيم"، لذلك فهم يطلقون على البشر لفظ "الكتلة"، وهي مفردة يستخدمها علم الإحصاء ويعني بها البشر والحيوانات والجمادات.
ويبدو أن تلك التصورات جزء من لعبة كبيرة تجري بين حراكين: حركة الميلاد وحركة الموت، ولا بد أن يأخذ الموت ما تأتي به الحياة ولو بعد حين. ولا يدري المرء هل كل ذلك له علاقة مخططة بوصول معدلات الشيخوخة في أوروبا بين ستين إلى سبعين في المئة من عدد السكان؟ وهل ثمة وجه للحقيقة في ما قاله "فوكوياما" في كتابه "نهاية الإنسان" عندما تساءل "هل ثمة احتمال حقيقي في أن يتسبب الفيض الغزير المتلاحق من المعارف الوراثية والبيولوجية في أن ينتهي جنس البشر ليظهر منا جنس بشري جديد ينقلب علينا فنفنى، وهل ستقتلنا المعرفة التي اكتسبناها؟!"، أظن أن هذا التصوّر جزء من تساؤلات أكثر شناعة تلد سؤالاً أكثر خطراً يطرحه الرجل هو "هل تترك الرأسمالية إنسانها الحالي بحثاً عن الإنسان (الفائق) عبر الهندسة الوراثية حتى نصل إلى ما يطلق عليه (الإنسان الكامل)؟". لقد شاعت تلك الفكرة على يد العالم "فرانسيس جالتون" واعتنقها عدد كبير من المفكرين والعلماء تحت دعوى تحسين حياة البشر، ثم تبيّن هراء كل التصورات التي تحدّثت عن المستقبل بكل هذا التفاؤل. ولا يمكن للمرء أن يتفهم مثل هذه القياسات الفاضحة على حال البشر، لكن يبدو أن ثمة حتمية نظرية تقول إن الحضارات عندما تكون على حافة السقوط فإنها تتصرف بأقصى درجات البربريّة، لذلك عادة ما يكون بديلها أكثر بربرية.
وإذا كانت الدولة، بحسب تعريف كارل بوبر، "شراً لا بد منه"، فقد حاولت السياسة الحفاظ على الحدود الدنيا لشرعية البقاء بدفعها مقابلاً معقولاً لتنازل الأفراد عن جانب من حرياتهم لصالح إقامة النظام، غير أن أخطر ما يحدث الآن في النظام العالمي أنه يتبدى في صورة الدولة غير العادلة. ويبدو أن دعوات آباء الرأسمالية الأوائل قد تبدّدت إلى غير رجعة، ولا بد أن كثيرين يتساءلون الآن عن مصير مقولات "بنيامين فرانكلين" الذي دعا إلى ما أسماه رأسمالية "بيوريتانية". وهو ما أكده "ماكس فيبر" من أن الإنسان قادر على إنشاء رأسمالية متنسكة تحقّق أعلى ربح للإنسان من دون أن تكون محكومة بعقلية التربّح، هذا طبعاً من واقع قناعته بأن كل شيء ملك للجماعة ولا يمكن أن يكون غير ذلك. غير أن واقع الأمر يقول إن التاريخ السياسي الحديث يقول إن استخدام الدولة للعنف يعتبر جزءاً من المجال الاقتصادي وجزءاً من مخرجاته أيضاً، وهو ما قال به الاقتصادي "فردريك تشابين لين".
ولعل قرننا الماضي كله يعتبر دليلاً سابغاً على ذلك، حيث يوصف بأنه قرن الشرطة السرية ومعسكرات الاعتقال والتخلّص المتعمد من طبقات اجتماعية كاملة ومن أجناس محددة بل ومن شعوب بأسرها، والجميع يعلم أن هيروشيما وناغازاكي يمثلان أكبر أعباء عصرنا على الديمقراطية. وقد تحدّث ماركس عن أشكال أكثر تعييناً للعنف عندما تحدّث عن إحصائيات الإصابة بالسل بين صانعي أربطة الأحذية في لندن، وقال إنها كانت تمثل فرداً لكل خمسة وأربعين فرداً عام 1852، لكنها في عام 1860 وصلت لنسبة واحد لكل ثمانية أفراد، ما أحدث زيادة مهولة لنسبة الوفيات الناجمة عن الجوع في لندن. وقد وجدت الدولة عبر تاريخها مع الأوبئة من يقدمون قراءات مزيفة لواقع الأمور. ففي المجاعة الهندية، مثالاً، قال رجال الدولة إن من ماتوا كانوا فقراء وعاطلين من العمل ومن كبار السن، لكن السلطة الأخلاقية تقول إن الحكومات كانت السبب المباشر في تفشي المجاعة بما صاحبها من أمراض، وأي حديث عن إهمال بعض أعضاء المجتمع هو مجرد أسباب جزئية. وفي كل الأحوال فإن "ماكس فيبر" يرى أن ما قدمته السلطة الأخلاقية العلمية لا يتعارض مع الاكتشافات التي تقول إن المجتمع عادة ما يهمل أعضاءه الأكثر ضعفاً، فليس هناك ثمة فارق بين ما قام به الضحايا هذا العام وما اعتادوا القيام به في الأعوام السابقة!
الحكمة السيئة
فهل يمكننا الآن الحديث عن المستقبل ما بعد كورونا؟! لا أتصوّر أن ثمة تصورات ممكنة للمستقبل في ظل بقاء النظام العالمي على هيئته، مالكاً لكل هذه الأدوات الاقتصادية والعسكرية الجبّارة، وقادراً بالتالي على ممارسة أعلى درجات العنف، ما يعني استمرار قدرته على فرض المزيد من البرطلة. وقد قرأت ذات مرة حديثاً مترجماً لوزير أسبق للخزانة الأميركية هو "وليام سيمون"، ربما يمثل أسوأ صور تلك البرطلة عندما يقول "إننا لا نستطيع الدفاع عن الرأسمالية من دون الدفاع عن عدم المساواة"! وهو ما ثمّنه زميله الاقتصادي المعروف "شارلز ويتكار" بقوله إن "الأمل في مساواة اقتصادية وهمٌ وخيال، لأن المثل العليا عن المساواة تتناقض مع المثل العليا للحرية، حيث إن هذه لا توجد إلا على حساب تلك، والأحرار غير متساوين اقتصادياً". وهو، على ما نرى، التباس ربما يبدو مدهشاً بين المساواة والحرية، لكننا عندما نتأمل ما قاله صاحب نوبل "ميلتون فريدمان" سنجد أن تعريف الحرية بالنسبة إليه يعني حرية الملكية الخاصة وليس الحريات السياسية التي يتحدث عنها مرضى الأمل من أمثالنا! ومع ذلك فإن ثمة وجهاً آخر للأزمة يتبدّى في أمراض عضال تتعرض لها الدولة في العالم، وقد أنتجت مساحات من التعصب الكاسح وصعد عبرها الشعبويون في أكثر بقاع العالم مدنيّة. وهو ما يبدو تعبيراً عما قاله هابرماس، في سياق نقاش موسع لآراء الجيل الأول من مؤسسي الحداثة، انتهى فيه إلى أن ذلك التماهي شبه التام بين قوى المعارضة والنظام في الديمقراطيات الغربية غدا معه المجتمع أحادياً على رغم مظاهر الصراع الفوقي بين صقور يتنافسون فقط على مصالحهم، ما انتهى أيضاً إلى فقدان الأمل تاريخياً في تغيير حياة تلك الجموع إلى الأفضل.
وقد رأينا كيف أن انتقاد المركزية الأوروبية لدى اشبنجلر وغيره لم يكن عاصماً من أخطاء أخلاقية فاحشة، وهو ربما الأمر الذي يفسّر لنا لماذا قابلت مؤسسات السياسة الأوروبية فكرة إسقاط صفة الثبات عن معنى الأشياء في "ما بعد الحداثة" بسخرية طالت رموزاً كبرى، مثل اشبنجلر وفرانسوا ليوتار الذي رأى أن كسر فكرة الثبات جارح للنرجسية الأوروبية لأنه ببساطة يعتبر التاريخ واحداً من سرديات اللايقين، وأظن أن الرجل كان يعني أن الدولة الحديثة في العالم ستدافع حتى الرمق الأخير عن إرثها من المظالم. وربما يكون وباء كورونا طريقاً لبعث روح جديدة في الطبقات الوسطى والمهمشة حول العالم لتشكل حزباً من الحفاة والعراة. لا أتحدّث هنا عن أحد أحلام اليقظة، بل أتحدّث عن "آدم سميث" الذي لم يكن بالضرورة صائباً عندما قال "بكل أسف... الحكمة السيئة هي التي ستسود، فقط، لأنها حكمة الكبار"!