تشهد التجاذبات السياسية في كواليس النظام الجزائري وفي صفوف المعارضة تسارعاً لافتاً، على إثر المسيرات المليونية التي شهدتها مختلف مدن ومناطق البلاد في "جمعة عيد المرأة".
عصيان مدني
وتدور في الكواليس مباحثات ومشاورات متعددة الأطراف بهدف "إيجاد مخرج للأزمة التي تعصف بالبلاد"، وخصوصاً أن الأوضاع مرشحة للاحتقان، على خلفية النداءات المتعددة الصادرة عن النقابات وتنظيمات المجتمع المدني، التي تنادي بالشروع في سلسلة من الإضرابات العامة والاعتصامات، بدءاً من الأحد 10 مارس (آذار)، ما يضع البلاد على حافة "عصيان مدني" شامل يستعصي حياله إيجاد أي تسوية ضمن الأطر الدستورية، وبالتالي استمرار المواجهة والتصعيد حتى "سقوط النظام"، كما باتت تطالب به بعض مكونات الحراك الاحتجاجي، وبالأخص منها فئات الشباب.
وكشفت شخصيات عدة، سياسية وقانونية، تحدثت اليها "اندبندنت عربية" في العاصمة الجزائرية، عن أن قيادة أركان الجيش شرعت بسلسلة واسعة من الاستشارات السرية بهدف رسم ملامح "تسوية دستورية" من شأنها أن "تنزع فتيل الاحتجاجات قبل ان تتطور الأمور إلى عصيان مدني شامل". ووفقا للمصادر ذاتها، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً، بعد الاستعراض الشعبي الحاشد الذي شهدته تظاهرات "جمعة عيد المرأة"، يتضمن "خطة معدلة" من المقترح الذي ورد في رسالة ترشيح الرئيس بوتفليقة بخصوص "فترة انتقالية مدتها سنة واحدة، تشرف خلالها ندوة وطنية موسعة على تعديل الدستور والقانون الانتخابي، تمهيداً لإجراءات انتخابات رئاسية حرة وتعددية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بوتفليقة بات من الماضي
لكن هذه "الخطة المعدلة"، التي ناقشتها قيادة أركان الجيش مع العديد من الشخصيات السياسية والخبراء القانونيين، أسقطت من حساباتها مقترح الرئيس بوتفليقة بإعادة انتخابه في الثامن عشر من أبريل (نيسان) المقبل، ليقوم بعد ذلك بتنظيم انتخابات مسبقة تشرف عليها "الندوة الوطنية". فبعد التظاهرات الأخيرة، تبلور إجماع شامل لدى كل الفرقاء السياسيين والعسكريين الجزائيين بأن "الرئيس بوتفليقة بات من الماضي"، إذ أصبح ترشيحه لولاية رئاسية خامسة "أمراً مرفوضاً شعبياً ومستعصي التحقيق أمنياً وسياسياً".
الصيغة الدستورية
لكن التجاذبات في أعلى هرم المؤسسة العسكرية ما تزال محتدمة بخصوص "الصيغة الدستورية" التي يجب إعمالها لتفعيل قرار إسقاط ترشيح الرئيس بوتفليقة. وتشير مصادر عدة تحدثنا إليها، صباح السبت، بأن السيناريو الأرجح أن يصدر المجلس الدستوري إعلاناً رسمياً برفض ملفات المرشحين الأبرز للمعترك الانتخابي الرئاسي، لأسباب قانونية، على أن يشمل ذلك الرئيس بوتفليقة ومنافسه الرئيسي الجنرال المتقاعد علي غديري، إذ يُرتقب رفض ملف ترشيح بوتفليقة بسبب تدهور حالته الصحية وعدم قدرته على تسليم طلب الترشيح بنفسه، كما ينص عليه الدستور.
أما الجنرال غديري، فالأرجح ان تكون الحجة القانونية لإبطال ترشيحه مرتبطة ببعض المخالفات التي شابت عملية جمع استمارات تأييده (يشترط الدستور الجزائري من المرشح للرئاسة جمع 60 ألف استمارة تأييد من قبل المواطنين، مع تصديقها رسميا من قبل المجالس المنتخبة المحلية في مختلف مقاطعات البلاد).
"ندوة وطنية" شبيهة بـ "ندوة الحوار الوطني" في التسعينات
إبطال ترشيحات المنافسين الرئيسيين من قبل المجلس الدستوري سيمنح الحجة القانونية لقيادة الأركان بإلغاء الانتخابات المقرر إجراؤه في 18 أبريل المقبل، وهو أمر يحظى بالإجماع، سواء في كواليس النظام أو في صفوف الحراك الاحتجاجي والمعارضة السياسية، لكن خلافات عدة ما تزال قائمة بخصوص الآليات المتعلقة بـ "ترتيبات اليوم الموالي"، أي إدارة الفترة الانتقالية. خطة قيادة الأركان، كما يشير به بعض الشخصيات التي تمت استشارتها، تقضي بتأجيل الانتخابات الرئاسة لفترة انتقالية مدتها سنة يجري خلالها تشكيل "ندوة وطنية موسعة" تضم "شخصيات وطنية وقانونية محايدة"، وفق سيناريو شبيه بندوة "الحوار الوطني"، التي أُقيمت في عهد الرئيس السابق اليمين زروال، تمهيداً للانتخابات العامة التي جرت سنة 1997. وتتولى هذه "الندوة الوطنية" مهام تعديل الدستور وإصلاح القانون الانتخابي، تمهيداً لإقامة انتخابات رئاسية تعددية.
تحفظات على هذا السيناريو
لكن هذا السيناريو يواجه العديد من التحفظات والاعتراضات، لدى بعض أجنحة النظام الحاكم وفي صفوف المعارضة، إذ تُثار بشأنه أسئلة قانونية ودستورية عدة، أولها يتعلق بمن سيحكم خلال هذه الفترة الانتقالية؟ إذ من غير المعقول إبطال ترشيح الرئيس بوتفليقة، لعدم أهليته صحياً، وإبقائه رئيسا للجمهورية. كما أن اعتراضات شديدة تطال الحكومة الحالية التي يرأسها أحمد أويحي، الذي يطالب الحراك الشعبي برأسه، بسبب تصريحاته في بداية الاحتجاجات، والبرلمان بغرفتيه ("المجلس الشعبي الوطني" و"مجلس الأمة")، الذي تسببت التجاذبات التي سبقت إعادة ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة في إسقاط ورقة التوت عن مصداقيته وشرعيته الدستورية.
إقالة الحكومة وحل البرلمان؟
من هذا المنطلق، تطرح أطراف عدة في صفوف النظام و"المعارضة المعتدلة" الممثلة في البرلمان، سيناريو ثانياً يدعو لاستكمال خطوتي إبطال ترشيح الرئيس بوتفليقة وأبرز منافسيه، وتأجيل الانتخابات الرئاسية لفترة انتقالية مدتها سنة، بخطوة ثالثة تتمثل في اقالة الحكومة الحالية وحل غرفتي البرلمان، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على "ترتيبات اليوم الموالي"، وتدير الحكم الى غاية انتخاب رئيس جديد. ووفقاً لبعض التسريبات، فإن قيادة أركان الجيش لا اعتراض لها على مثل هذه الخطة، لكنها تتوخى الحذر، ولا تريد إعلان كل هذه الخطوات دفعة واحدة، مفضّلة الإبقاء على مسألة إقالة الحكومة وحل البرلمان كورقة ضغط لنزع فتيل الاحتجاجات لاحقاً، إذا لم ينجح قرار إبطال ترشيح بوتفليقة وتأجيل الانتخابات في تهدئة الحراك الشعبي بشكل كامل.
"مجلس تأسيسي" لإرساء "جمهورية ثانية"؟
لكن العديد من رموز وقادة الحراك الشعبي، من المعارضين الراديكاليين والنشطاء والقانونيين، يرون أن "الغطاء الدستوري" لصيغ التسوية المذكورة غير مكتمل تماماً، وبالتالي يتمسكون بسيناريو ثالث ينادي بتفعيل المادة 102 من الدستور، لإعلان شغور المنصب الرئاسي، وتأجيل الانتخابات على هذا الأساس لا بسبب عجز الرئيس بوتفليقة عن لترشيح لولاية ثالثة لأسباب صحية. أما بخصوص "ترتيبات اليوم الموالي"، فيقترح دعاة هذا السيناريو الثالث بدورهم حل البرلمان، لكنهم يدعون الى انتخاب "مجلس تأسيسي" تكون مهمته سنَّ دستور جديد يرسي أسس "جمهورية ثانية" تكرس قيم التعدد والديموقراطية والتداول السلمي على السلطة، على أن تجرى بعد ذلك انتخابات الرئاسة، وفقاً للدستور الجديد.
سيناريوهات وتجاذبات
وعلى الرغم من إن نقاط التقارب بين هذه السيناريوهات الثلاثة تفوق نقاط الخلاف، الا أن التجاذبات المحتدمة في الكواليس من شأنها تأخير التوصل الى صيغة موحدة تحظى بالإجماع، ما قد يعطل تفعيل أي من هذه التسويات قبل انطلاق حراك "العصيان المدني" الذي يخشى كثيرون أن يكون بمثابة خط اللارجعة الذي لن يترك مجالاً في ما بعد لأي تسوية ذات طابع دستوري، ما سيزج بالأوضاع نحو حالة من الفوضى الشاملة التي قد تفضي الى انهيار شامل لمؤسسات الدولة بدل الاكتفاء بـ "إسقاط النظام" القائم أو "طرد العصابات الحاكمة"، وفقاً للشعارات الشعبية التي رُفعت خلال التظاهرات الاحتجاجية.