ينقضي في نهاية هذا الشهر عقدان على الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وتحلّ في الأيام نفسها الذكرى الـ38 لانطلاق الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 الذي تُوِّج باحتلال أوّل عاصمة لبلد عربي مستقل.
انطلقت عملية "سلامة الجليل" الإسرائيلية في الرابع من يونيو (حزيران) 1982 بقصف جويّ على مواقع حيوية في بيروت، كانت نقاط تجمّع لعناصر منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة، وإلى جانبهم عناصر من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، والجميع يتحرّك تحت اسم "القوات المشتركة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية".
في يوم القصف الأول دُمرت مدينة كميل شمعون الرياضية، وضُرِبت مواقع عدّة في الجنوب، وخلال الساعات التالية بدأت عملية نزوح جماعي من القرى والمدن اللبنانية الجنوبية التي أنهكتها اشتباكات داخلية على مدى الشهور الماضية زادت في حدّة الكُره الشعبي لمسلحي منظمة التحرير وأنصارهم اللبنانيين، وبدا في بعض الأحيان أنّ السكّان يرحبون بالغزو الإسرائيلي الذي سيخلّصهم من هيمنة مسلحين أضاعوا معنى انتسابهم إلى قضية كبرى، بحجم استعادة فلسطين والحفاظ على لبنان السيد المستقل.
دفعت ماكينة الجيش الإسرائيلي عناصر القوات المشتركة من أقصى الجنوب إلى البقاع والجبل وبيروت، وخلال أيام أحكم الغزاة حصارهم بيروت الذي سينتهي بدخولها في منتصف سبتمبر (أيلول) 1982.
كانت مصر استعادت قبل ذلك التاريخ أراضيها المحتلة بمقتضى معاهدة كامب ديفيد، بينما عارضها خصومٌ أعداء أمثال الرئيس السوري حافظ الأسد ونظيره العراقي صدام حسين، وتحت عاصفة من الغبار اللفظي القومي العروبي نُظّمَت جبهات للصمود والتصدي انضمت إليها منظمة التحرير الفلسطينية، مستندة إلى قاعدتها الأرضية الجديدة في لبنان، حيث بَنَتْ دولة داخل الدولة، هي الأقوى فعلياً، متقاسمةً السلطة مع قوات سورية دخلت لبنان قبل ست سنوات بدعوى إنهاء القتال فيه وحفظ وحدته وسيادته وحماية الثورة الفلسطينية المقيمة بين ظهرانيه.
انتهى الاجتياح الإسرائيلي إلى إخراج منظمة التحرير من لبنان، وإلحاق النظام السوري للعناصر المتبقية منها، وسعت إسرائيل إلى قيام سلطة حليفة لها ففشلت، نتيجة طبيعة التوازنات الداخلية ودعم النظام السوري ومعه الاتحاد السوفياتي لقيام جبهة خلاص وطني لبنانية نادت بإسقاط اتفاق 17 مايو (أيار) بين لبنان وإسرائيل.
في الحصيلة العامة لتوازنات تلك المرحلة بدت إسرائيل في موقع مَنْ حقق مكاسب ملموسة (الاتفاق مع مصر، وإخراج منظمة التحرير والجيش السوري من بيروت).
وفي المقابل لم تحقق الجبهة المناهضة لها رسمياً أي خطوة جدية على طريق إحداث تغييرٍ في موازين القوى، فالأسد انشغل في تركيز حكمه بعد مجزرة حماه، وصدام حسين مُنشغلُ بحربه ضد إيران الخمينية التي ستستمر حتى نهاية الثمانينيات (1988). وبعيداً من الاهتمام بإسرائيل التي احتلت بلداً عربياً آخر، نشأت تحالفات تدعم إيران في حربها ضد العراق، وتحوّلت سوريا الأسد إلى قاعدة للسياسة الإيرانية في المنطقة، بينما تولّت ليبيا بقيادة القذافي دعم طهران بالصواريخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طَبَعَ دخول العامل الإيراني هذه المرحلة الجديدة بطابعه. لم يعد خطاب التحرير خطاباً سوريّاً أو عراقيّاً، وبعد اتفاق أوسلو (1993) لم يعد فلسطينيّاً. أصبح امتيازاً إيرانيّاً، والقدس بات لها يومها الإيراني، وبعد نجاح الحرس الثوري في تأسيس وإطلاق حزب الله اللبناني، باتت إيران جزءاً من المعادلة الإقليمية الجديدة، بل طرفٌ أساسيٌّ فيها، ولأنّ الخطاب الحربي الإيراني خطابٌ أبديٌّ فإن احتمالات التسوية والتغيير لن تكون مُتاحة إلا بعد تحقيق إيران غاياتها المحددة في برنامج مرشدها.
استغرق الاجتياح الإسرائيلي في يونيو (حزيران) 1982 أياماً قليلة ليصل إلى بيروت وثلاثة أشهر ليحتلها، لكنّه استوجب 18 عاماً كاملة ليخرج من لبنان في 25 مايو من عام 2000، ومرّت 20 عاماً على ذلك الخروج، وما زال التنظيم الذي أنشأته إيران، (تطعمه، وتُلبسه، وتغذيه، وتؤويه، وتدفع له أجوره بالدولار، وتسلِّحه بالبندقيات والصواريخ، حسب شهادة أمينه العام حسن نصر الله) يفرض حضوره الميليشياوي مقيماً دولة داخل الدولة في لبنان، متجاهلاً كل ما تنصّ عليه القوانين الوطنية والدولية، موزعاً نشاطاته العسكرية من سوريا إلى العراق واليمن، وحسب ما يأمره به مرشده الإيراني.
نحو 40 عاماً مرّت منذ أن كان الحديث عن مواجهة عربية - إسرائيلية، وهذه المواجهة لا تزال مستمرة في فلسطين نفسها، وبأشكال متنوّعة وفي منتهى الجدية. فمعارك عرب 48 السياسية والانتخابية لا تقلّ أهمية عن دفاع أبناء الضفة عن أرضهم، وتمسُّك أبناء القطاع بها، والاعترافان العربي والدولي اللذان تتمتع بهما السلطة الوطنية الفلسطينية في دفاعها عن حقوق شعبها، لا يمكن مقارنتهما بخطاب إيراني مصحوب ببعض التمويل بهدف شقّ الفلسطينيين وفتح أبواب مقايضة خفية مع إسرائيل وأميركا، كما حصل سابقاً في صفقة أوليفر نورث.
أربعة عقود مرّت، تغيّر خلالها الكثير، خصوصاً في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وموقع لبنان في هذا الصراع، ومع ذلك لا يزال لبنان مشدوداً من خانقيه بحبل مشنقة تمدّه إيران، وهذا هو سببٌ رئيسٌ في موت لبنان، وفي انتفاضة بنيه.