يقول الروائي الروسي الخالد دوستويوفسكي "ما أسعد الذين لا يملكون شيئاً يستحق أن يوصدوا عليه الأبواب بالأقفال"، لكن هؤلاء الذين يشير إليهم هم قلّة قليلة ممن اختاروا حياة الزهد والترحال والتصوّف، أما بقية البشر فهم يملكون شيئاً يوصدون عليه الأبواب ولو كان هذا الشيء أجسادهم فقط، أو مجرد حق الشعور بالاستقرار والأمان، أو حتى إمكانية حجر أنفسهم في زمن انتشار الفيروس.
2020 عام البيت
بدأ عام 2020 وسكان الكوكب الأزرق، بغالبيته، محجورون في بيوتهم جبراً أو اختياراً منذ أشهر قد تمتد لأخرى مقبلة، ما أعاد الاعتبار للعلاقة بين البيت وساكنيه، بعدما أُجبر المحجورون على اكتشاف بيوتهم بتفاصيلها وزواياها، واستعادة الروابط بين أفراد العائلة الصغيرة أو الموسّعة، تلك التي كانت سرعة الحياة قد أنهكتكها بسبب متطلبات العولمة وساعات العمل الطويلة التي فرضتها حاجات السوق، والحاجة البشرية لتحقيق "الرفاه" المعيشي والتكنولوجي، الذي روّجت له "بروباغندا" العولمة المترافقة مع ثورة الإنترنت وتحديداً في وسائل التواصل الاجتماعي، حينها كان سكان البيوت مدفوعين إلى ترك منازلهم معظم النهار، ولا يعودون إليها إلا للراحة في المساء، فتلاشت الحميمية الطبيعية التي تربط البيت بسكانه، والتي عادت لتشتد أواصرها في زمن الحجر المنزلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحوّل الفيروس البيوت إلى مكاتب عمل وصفوف مدرسية في منظومتي "العمل عن بعد" و"الدراسة عن بعد"، وعاد الجميع إلى فنون الطبخ وتجريب أنواع جديدة من الوصفات المطبخية حتى بات الأمر كمسابقة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا نفسه ولّد اهتماماً أكبر بالديكور البيتي، فكما فجّر إبداعات كانت كامنة لدى كثيرين في مجال الطبخ، فجّر لدى البعض الآخر طاقات في مجال الديكور بالنسبة لمن يفرض عليهم عملهم القيام بلقاءات يومية أو أسبوعية عبر وسائل إلكترونية، أو لمن يرغبون في نشر صورهم وفيديوهات عن حياتهم اليومية في الحجر المنزلي، وهم أكثرية المتعاملين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
هكذا عاد هؤلاء إلى بيوتهم ليهتموا بها كي يتمكنوا من البقاء فيها أطول مدة من الزمن، وعادت إلى المنازل قيمتها المعنوية والمادية والنفسية بعدما كادت تتحوّل إلى مجرد مجموعة من الجدران والأثاث والفراغات الباردة والتي من دون "روح".
آلة سكن وموئل حميمية
البيت هو "آلة" للسكن بماديته بحسب الفيلسوف المعماري الفرنسي لوكوربوزييه، أي أنه "مأوى" لساكنيه، يؤمن لهم الدفاع الغريزي الأول في مواجهة الطبيعة، وفي مواجهة البشر الآخرين أيضاً، وهو آلة لأنه يتطور كما أي آلة مع مرور الزمن ومع تطور البشر أنفسهم، فالكائن البشري منذ بدء تطوّره كان مرتبطاً بمأواه، سواء كان مغارة أو كوخاً من جذوع الأشجار أو خيمة أو غرفة من الطين أو بيتاً من الإسمنت أو مبنى من الفولاذ والزجاج، وكان تطوّر الشكل المعماري والهندسي للبيوت يسير في خط موازٍ لتطور البشر واستقرارهم وتبدّل علاقاتهم مع الطبيعة التي تحيطهم ومع البشر الآخرين الذين يعيشون في جوارهم.
وأكدّ عالم الاجتماع الفرنسي لينهارد، فكرة ارتباط الكائن البشري بمأواه أو بيته عبر دراسة من لا مأوى لهم، فبرأيه حتى الذين لا يملكون بيتاً فإنهم يتصرفون ويشكّلون في خيالاتهم صوراً تتعلق ببيت ما منتظر، لا سيما في الحالات التي لا يتوافر فيها البيت المادي كما هي في حالات التشرّد أو اللجوء أو الهجرة، حينها يصبح الخيال والذاكرة وممارسات صنع البيت أمراً حاسماً للحفاظ على الشعور بالاستقرار والأمن.
على سبيل المثال، قد ينشئ الأشخاص الذين لا مأوى لهم إحساساً بالبيت من خلال روتينهم اليومي والتنقّل عبر شوارع المدينة وجمع مواد جديدة للملاجئ المؤقتة والتسوّل والاجتماع مع الأصدقاء، فبهذه الطريقة، لا يقومون فقط بتنظيم يومهم، ولكن محيطهم أيضاً.
علم النفس المعماري
في جميع لغات العالم يردد الناس مقولات تدل على الراحة النفسية عند دخول البيت أو الركون إليه، وأشهرها الجملة الإنكليزية "هوم سويت هوم" أو في مثيلتها اللبنانية "يا بيتي يا بويتاتي" وغيرها من الأمثلة الشبيهة والتي تدور حول التعبير عن البيت وكأنه كائن حي يؤمن السعادة والراحة النفسية، وقد أثبتت دراسات حديثة أن كيفية تصميم البيت من الداخل وتقسيمه وتوزيع غرفه ودخول نور الشمس إليه كلها تؤثر في نفسية ساكنيه، ونشأ علم جديد لتطوير هذه الحاجة سميّ "علم النفس المعماري" لاستكشاف تأثيرات العمارة على البشر ومشاعرهم وسلوكهم، وصياغة توصيات لتخطيط وتصميم المباني بحيث تقلّل من الإجهاد وتعزّز الرفاهية.
فبرأي الدكتور هارالد دينسبيرجر من معهد علم النفس السكني والعمراني في النمسا، أن العمارة السيئة التصميم يمكن أن تعزّز الإجهاد والإنهاك وتحفّز الأعراض النفسية والجسدية السلبية وتشجع عدم الراحة البدنية، وقد تظهر التأثيرات هذه بعد مرور أشهر أو سنوات من السكن في المنزل، ويلعب الضوء والنباتات والمواد وأساليب البناء ودرجة الحرارة والظروف الجوية دوراً في تأمين الرفاهية والصحة.
الباحث في مجال الإسكان والسياسة الاجتماعية داني فريدمان، يرى وجود ارتباطات بين سوء الأحوال السكنية وصحة الأفراد ورفاهيتهم واحتمالية الإجرام والإحراز التعليمي، فالبيئة التي نعيش فيها أرض خصبة لتطوّرنا الفردي، وبالمعنى الإيجابي يمكن للمساحات أن تسهم في تقوية إحساسنا باحترام الذات والرضا، أو قد يسبّب التأثير السلبي في هذا المجال عدم الرضا والأرق والاغتراب والقلق.
ولمواد البناء والأثاث والضوء والمؤثرات الصوتية تأثير عاطفي مباشر على ساكني المنزل، ولهذا بات المعماريون في الدول المتقدمة يعيرون المزيد من الاهتمام للتصميم الداخلي للبيوت بما يسمح لدخول مزيد من الضوء والهواء، والتقليل من الضوضاء التي تصل من الخارج وتقسيم الغرف بما يتيح تنظيم الساكنين أعمالهم البيتية في داخلها من دون إحساس بالضيق.
المدن الدول
ومجموع البيوت التي تشكل المكان أي الحي أو المدينة لها تأثيرها أيضاً في النفسية والمشهدية العامة وفي التطور الاجتماعي للمكان وسكانه، ويرى المعماري والمهندس اللبناني، الذي نشر أبحاثاً ودراسات مطوّلة حول العمارة التقليدية والعمارة الحديثة والبيئية، وارتباط العمارة بتطور المجتمعات، رهيف فياض، يرى في العمارة الحديثة سبباً لتعميم مفهوم "اللامكان"، وقد كتب "أن نُوجَدَ، وأن نَبْني، وأن نَسْكُنَ، وأن نَعيشَ ونَعمَلَ في جماعاتٍ متعاونةٍ ومُوحَّدةٍ، إن هذا المسارَ للجنسِ البشريِّ، من الوجودِ البسيطِ للإنسانِ الفردِ، إلى ارتقائه، وصولاً إلى الحياةِ الجماعيَّة المِعطاء، مُنتِجَةِ القوَّةِ والسُلطةِ، ومنتِجَةِ "المدنِ – الدول" عَبْرَ التاريخ، إن هذا المَسارَ، لا يُمكِنُه أن يتحقَّق إلا في مكانٍ محدِّدٍ بوضوحٍ، نُعرِّفُ خَصائصَهُ ونعرِّفُ ميزاتِ الجَماعةِ التي تعيشُ فيه".
ويبدو أن الحجر المنزلي الذي تسبّب بسلبيات كثيرة، كانت له إيجابياته الواضحة، في الطبيعة ككل، إذ يقول العلماء إن بعد أربعة أشهر من الحجر عادت الأرض إلى الحالة التي كانت عليها قبل أربعة آلاف عام، وكذلك في "الكوكب" الأصغر أي البيت، حيث عاد إليه دوره الذي فقده، فبات إضافة إلى كونه "آلة" سكن، مكاناً للراحة النفسية وإعادة التماسك العائلي وتحقيق الحميمية التي كادت تندثر.