بات في حكم المعلوم بالضرورة، أنه كلما ضاقت الحلقات على قادة النظام القديم، بحثوا عن بعث الفتن في الخواصر الرخوة للسودان. منذ يوم الخميس الماضي أعلنت لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد، لنظام الثلاثين من يونيو (حزيران) 1989 عن التعديلات الجوهرية التي تم إلحاقها في قانونها الأساسي، وهي تعديلات تمنحها صلاحيات واسعة؛ كتأسيس نيابة خاصة بقضايا الفساد، وعقوبة تصل إلى السجن 10 سنوات لمن يعرقل سير اللجنة أو يتعرض بالأذى لأحد أعضائها، إلى جانب اشتراط الحضور الشخصي لكل من يطالب بالاستئناف في قرارات اللجنة.
وهكذا، ما إن مر يوم واحد، على المؤتمر الصحافي الذي عقدته اللجنة يوم الخميس الماضي وأعلنت فيه تعديلات القانون الجديد إلى جانب قرارات استرداد ممتلكات حكومية تم نهبها من طرف بعض رموز النظام السابق؛ بدت بوادر فتنة بين مكونَّين أهليين بمدينة كسلا شرق السودان، مساء الجمعة الماضية. ولا نستبعد أن تكون هناك محاولات متجددة للفتنة قد تنجم في إحدى مدن شرق السودان، أو غربه (حيث اندلع اقتتال أهلي بين قبيلتين هناك) في ظل التضييق الخطير الذي يشعر به رموز النظام السابق، لا سيما أن بعضاً منهم لايزال في الجهاز الإداري للولايات، واللجان الأمنية فيها حيث لم يتم حتى الآن استبدال الولاة الحاليين بولاة جدد.
لقد كشف تسييس القبائل الذي انتهجه نظام البشير في شرق السودان، إلى جانب التهميش الذي ظل يعاني منه الشرق لعقود، عن مزيج خطير من الجهل والكارثة في ممارسات ناشطين في وسائل تواصل اجتماعي وُفرت لهم إمكانات خبيثة لبث الفتن بين المكونات الأهلية، عبر الاتهامات وإثارة النعرات العنصرية وخطاب الكراهية، متخذين من إمكانية التخفي وراء حسابات فيسبوك منصات فتنة لاتزال تنشط من أجل تجديد ما جرى في مدينة بورتسودان مثلاً على مدى ثلاث موجات من الاقتتال الأهلي.
في تقديرنا، أن رموز النظام القديم وحلفاءه في شرق السودان لا سيما بين أوساط قبائل البجا، سيكونون أشد حرصاً على استثمار علاقات العصبية القبلية للاحتماء بقبائلهم في القرارات المحتملة التي ستصدرها فروع لجان إزالة التمكين ومحاربة الفساد لنظام الثلاثين من يونيو، حين تشرع في عملها بعد تكوينها.
ففي شرق السودان يسهل على السياسيين الفاسدين من رموز النظام القديم وحلفائه الاحتماء بقبائلهم ومناصرتها لهم في الحق والباطل، بل لقد أدى شعور البعض بالاطمئنان والحماية من قبائلهم إلى محاولة استئناف دور سياسي حتى بعد سقوط نظام البشير عبر أجسام قبائلية من المفترض ألّا يكون لها أي نشاط سياسي، وبعد أن فشل حزب مؤتمر البجا فشلاً ذريعاً بفروعه كافة في أن يكون جسماً سياسياً لأبناء الشرق بمكوّناتهم. الأمر الذي يدل على أن إعاقات ذهنية نظام الإنقاذ لا تزال تشتغل بكفاءة في النشاط العام للساحة السياسية في شرق السودان، وهي ساحة يمكننا القول إنها اليوم أبعد ما تكون عن القدرة في تكوين جسم سياسي هام ومسؤول للاضطلاع بمطالب أهل شرق السودان في ظل انفتاح السياسة بعد الثورة.
ما هو موجود اليوم في شرق السودان يعكس مأساة حقيقية تكشف إلى أي مدى خرَّب نظام الإنقاذ الوعي العام للسياسة، ودمّر كل مقومات فهمهم الشأن السياسي، حيث يظن بعض الهواة وأنصاف المثقفين من مروّجي الفتنة في وسائل التواصل الاجتماعي أن العمل السياسي هو تأجيج النعرات القبلية وادعاء حيازة المدن بعيداً عن مفهوم المواطنة، وإقصاء مواطنين آخرين بحجج واتهامات لا تعكس إلا جهلاً مركباً بمفهوم الوطن، إلى جانب نشر خطاب كراهية من قبل أفراد معدودين هم نماذج معبرة عن التشويه الذي سمّم الذهنيات العامة والممارسات القبائلية للسياسة خلال سنوات الإنقاذ الثلاثين وعزّز الجهل والفتنة وزرع الأحقاد بين قبائل البجا. بحيث يمكننا القول إن بورتسودان كبرى مدن الشرق وميناء السودان يسمم فضاءها العام اليوم؛ إرادات خبيثة للفتنة عبر مخططات لقوى الثورة المضادة، تستثمر في الجهل بين البجا، وتعكس أسوأ ما في نفوس الناس من عصبية وضغائن وكراهية، إذا تحولت إلى ما لا تحمد عقباه بين مكونات قبائل الشرق، لا سمح الله، فسوف تكون العاقبة أخطر بكثير مما يتخيله الجميع في أسوأ كوابيسهم.
ولهذا نقترح على وزير العدل السوداني، د. نصر الدين عبد الباري سن نظام قانوني لمحاكمة ومساءلة مروّجي الفتن في المناطق الساخنة التي شهدت موجات اقتتال قبليّ كمدينة بورتسودان مع إيقاع عقوبات فورية رادعة لمروجي الفتن، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك في الفضاء العام. لأن احتمالات تجدد الفتنة يمكنها أن تقع في ظل النشاطات الإسفيرية المؤذية لوسائل التواصل الاجتماعي.
إن شرق السودان اليوم يشهد فصلاً حزيناً لغياب ضمائر مثقفي البجا الذين جبنوا في مواجهة زعماء القبائل والسياسيين الفاسدين من ذويهم، من دون أن يدركوا أن طريق النجاة الوحيد من الحريق المقبل المحتمل، لا سمح الله، يكمن فقط في يقظة ضمائرهم وتحمل مسؤولياتهم بالتحالف معاً كمثقفين بجاويين مع الناشطين السياسيين كافة من ذوي الضمائر الحية والنزاهة الأخلاقية والحس الوطني المسؤول مع مكونات شرق السودان والجهر بالحق عبر أجسام حقوقية وسياسية وثقافية لمواجهة خطاب الكراهية المتفشي. لاسيما أن أهم من يحتاج إلى تلك الأجسام هم شباب الثورة ولجان المقاومة الذين أحجموا عن الانخراط في تولي زمام المبادرة وتسيد ساحات الشأن العام؛ إثر موجات الاقتتال الأهلي التي ضربت مدينة بورتسودان العام الماضي.
على الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير الإسراع بتغيير ولاة الولايات وتشكيل حكوماتهم، كما على قيادات قوى الحرية والتغيير في الخرطوم التركيز على فرع البحر الأحمر والحرص على أن تكون عناصره من ذوي البوصلة الأخلاقية والنزاهة الوطنية والصلابة النضالية من مكونات المدينة كافة.
وأخيراً؛ يقترح كاتب هذه السطور أن يكون للبعثة السياسية الجديدة للأمم المتحدة وجود كثيف في شرق السودان من أجل تحسين مناخ العمل السياسي عبر عمليات التنمية الديمقراطية وورش بناء السلام، لاسيما أن شرق السودان لايزال حتى اليوم خاصرة رخوة للثورة، يمكن أن يتم عبرها إجهاض مشروع الثورة في السودان إذا ما ترك أمر الساحة السياسية في شرق السودان لقوى الثورة المضادة من قيادات نظام عمر البشير وحلفائه الذين هم على استعداد لإحراق شرق السودان عبر إثارة ثعابين الفتنة من مروّجي خطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي، خوفاً من مواجهات ومساءلات لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد لنظام الثلاثين من يونيو، وهي لا شك مساءلات مقبلة ووشيكة.