اختارت الروائية الفرنسية مايليس بيسّري، صموئيل بيكيت العجوز ابن الـ83 سنة "بطلاً" لروايتها "الزمن الثالث" (دار غاليمار) التي فازت أول من أمس بجائزة غونكور للرواية الأولى وهي جائزة مهمة في سياق الجوائز الأدبية في فرنسا. ولم يكن هذا الإختيار إلّا استعادة للأشهر الأخيرة التي قضاها الروائي والمسرحي الحائز نوبل منتظراً "غودو" في بيت الراحة أو دار العجزة، مثلما انتظره سابقاً بطلا مسرحيته الشهيرة، فلاديمير واستراغون، ولم يأتِ. لكن "غودو" لم يلبث أن يأتي في ختام أشهر الاحتضار البطيء الذي عاشه بيكيت في دار العجزة الذي يحمل اسم "العالم الثالث" ويقع في شارع ريمي دومونسيل، في الدائرة الـ14 من باريس، وهو مبنى أبيض اللون، عادي جداً، ينتظر فيه عجائزه نهاية حياتهم. دار العجزة هذا كان فعلاً مسكن بيكيت الأخير، قبل أن يقع عن سريره ويُنقل إلى مستشفى سانت آن، ليتوفى هناك في 22 ديسمبر (كانون الثاني) 1989. وكان بيكيت دخل دار العجزة في يوليو (تموز) من العام ذاته، بُعيد وفاة زوجته سوزان، وبعدما حلّ به الوهن وهدّ العياء جسده، جراء إصابته بانتفاخ رئوي وبمرض باركنسون. وبلغ به الهزال مبلغاً حتى إنّه لم يستطع البقاء وحيداً على الرغم من العناية الطبية المتقطّعة التي كان يتلقّاها.
تركّز الروائية مايليس بيسّري على هذه الأشهر الأخيرة التي أمضاها الكاتب الكبير في بيت الراحة، منطلقةً من بعض الوثائق أو الوقائع، لتُفلت من ثمّ جماح مخيّلتها، راسمة صورة لصموئيل العجوز، النحيل والطويل القامة، الكامد الوجه ولكن الثاقب النظرات. كأنه فعلاً ينتظر "نهاية اللعبة" بحسب عنوان إحدى مسرحياته، في عالم يحتلّه أشخاص عجائز يذكّرونه ببعض أطياف رواياته ونصوصه المسرحية. وكم كانت صدمته كبيرة عندما وجد أن العشب في الحديقة التابعة للدار، عشب إصطناعي من مادة البلاستيك، لا تأتي إليه العصافير التي يحبّها والتي كان يعبّئ جيوبه بالخبز كلّما خرج من المنزل، لينثره لها في الحدائق والساحات. وفي وسط الحديقة، تنتصب شجرة كأنها شجرة "غودو" التي تحتلّ خشبة المسرح الذي هو دار العجزة هنا.
إنها إذاً الأشهر الأخيرة، يواجه بيكيت خلالها نفسه ويحدّق في مرآة ذاته ليدرك أن الشيخوخة والمرض لم يتركا له سوى بعض الذكريات، الجميلة حيناً والتاعسة حيناً. يواجه نفسه المنقسمة إلى هويتين، هويته الأيرلندية الأولى أو الهوية الأم، وهويته الفرنسية أو هوية "المنفى" الطوعي الذي اختاره وتبنّى لغته لتصبح رديفة للغته الإنجليزية الأولى. وكان بيكيت يكتب في اللغتين، الإنجليزية والفرنسية وكأنهما اللغة الأم. لكن العجوز الذي يعيش بالذكرى، لم ينفصل تماماً عن واقعه داخل دار العجزة، فهو كان يملك نظرات حادّة يلقيها على ما يدور حوله، ويستقبل الأطباء ويبتسم إلى الممرضات وإحداهن تُدعى نادجا، وقد ضمّت الرواية تقريراً طبياً مؤثراً كتبته هي. ولا تغيب نزهات المساء وأطباق الطعام التي كان يرفضها. وقد أفاد ملفه الطبي ذو الرقم 835689 عن معلومات دقيقة ومنها أن طوله متر و82 سنتم ووزنه 63 كيلو. وكان بيكيت يسمع في الليل أحياناً أنين إحدى جاراته وهي امراة عجوز، ولعله الأنين ذاته الذي سمعه في المستشفى الذي نُقل إليه بعدما تعرّض مرة للطعن أيام الشباب، ولم يكن سوى أنين شخص مصاب بالسرطان، لم ينسه طوال سنوات.
شريط حياة
يتذكّر بيكيت شريط حياته المتعدّدة الفصول مثل "كراب"، البطل العجوز في مسرحيته الشهيرة "الشريط الأخير" الذي كان يستعيد ذكرياته مستمعاً إلى الشريط الذي سجّلها عليه. لكن بيكيت هنا هو الذي يروي بصوته وهو الذي يستمع إلى صوته. تمرّ الفصول والمراحل التي صنعت حياته أمام عينيه أو بالأحرى عبر ذاكرته: صداقته مع الكاتب الكبير جيمس جويس الذي كان بمثابة معلم وصديق له، علاقته المتوتّرة بلوسيا ابنة جويس، تواطؤه مع ناشره الشهير وصديقه جيروم ليندن صاحب دار"مينوي" الشهيرة، الذي كان يعينه في أحايين الأزمات المالية، العروض الأولى لمسرحية "غودو"، إشكاليات الكتابة لديه، علاقته بجسده، تيبّس رجليه الذي رافقه طويلاً، حادثة الطعن التي تعرّض لها، أمه ماي، والده الذي كان يصحبه إلى صيد السمك، زوجته سوزان، أغنيات المراهقة في أيرلندا، مشاركته في المقاومة الفرنسية ضد النازية، أصدقاء وصديقات، عشيقات، عزلته، بيته الهادئ، الفيلم الوثائقي الذي يتناول ناحية من نواحيه الشخصية والإبداعية، وقد أنجزه المخرج باستر كيتون... وتستهلّ الروائية نصها على لسان صموئيل بيكيت نفسه، متذكراً زوجته سوزان التي رحلت قبل فترة والتي كانت تكبره بـ11 سنة، قائلاً: "ماتت. يجب أن يذكّروني باستمرار أنها ماتت. سوزان ليست في الغرفة، ليست معي، إنها لم تعد موجودة بتاتاً. لقد هربت. ولكن هذا الصباح، تحت غطائي العتيق، بدت كأنها هنا، لم تهرب ولم تمت حتى، هنا، تحت الغطاء، ملتصقة بزوجها العجوز سام". ولا استغراب أن تتحوّل مقاطع كثيرة من الرواية إلى مونولوغ طويل ومتقطّع، وكأنه أحد المونولوغات التي كان يكتبها بيكيت على لسان أشخاصه.
جرأة التخييل
لا بدّ لنا من أن نتذكّر بطله "مالون" المريض أو المحتضر المُلقى في سريره في رواية "مالون يموت"، أو شخصية "فلاديمير" الرجل المعطوب والمنهك في مسرحية "بانتظار غودو"... وعلى عادة مونولوغاته المسرحية أو الروائية، يبدو مونولوغه هنا غاية في الطرافة، في السخرية والعبث والكآبة والقلق في آن واحد. فهو يقول على سبيل المثل: "خلال وجودي، يبدو لي أن قلّة من الأشخاص تمكّنوا من تحمّلي: أريد أن أقول: أن يتحمّلوني بطريقة أستطيع أنا أن أتحمّلها. يجب القول إنني لم أكن قادراً على التحمّل كثيراً". ويقول في جملة أخرى: "قد يكون ممكناً أن لديّ في الجحيم الذي لا أؤمن بوجوده، سمعة قوية". كأنّ الروائية الشابة أرادت روايتها مسرحية مونودرامية يستبطن فيها بيكيت نفسه كشاهد على ما جرى في حياته وعلى ما جرى أمام عينيه من مآس وويلات. ونجحت مايليس فعلاً في جعل صوت بيكيت من خلال هذا المونولوغ الطويل، صوتاً طالعاً من الداخل وصوت شخص كأنه يستمع إلى نفسه وإلى العالم وكأنه صوته الذي يأتيه من الخارج في وقت واحد. تقول على لسان بيكيت: "أشعر بالبرد قليلاً. إنّني هزيل جداً. كانت أمي تقول لي هذا دوماً. عندما كنتُ صغيراً، كنتُ أركض من دون توقف، في الشوارع، في الحقول، أركض لئلّا يصيبني البرد، لأنني كنتُ نحيلاً جداً".
تبدو الروائية الشابة مايليس بيسّري جريئة جداً في لعبتها التخيّلية المرتكزة على وقائع حقيقية، وفي جعلها صموئيل بيكيت شخصية روايتها "الزمن الثالث" التي حازت جائزة غونكور للرواية الأولى. وقد مضت في هذه اللعبة حتى لبدا صموئيل بيكيت نفسه شخصية من شخصياته. بل بدا كأنه هو مَن قرّر كتابة هذه اليوميات أو هذا المونولوغ في بيت الراحة، مصوّراً نفسه على العتبة الأخيرة في مسار حياته. واللافت أن "بيت الراحة" لم يبدُ البتّة بمثابة سجن، كما يعبّر كثيرون من قاطنيه.
بلغت رواية "الزمن الثالث" نحو 182 صفحة، لكنها حافلة على الرغم من صغر حجمها وكثافتها، بالمفاجآت البيكيتية والوقائع والأحوال، عطفاً على فضائها المتخيّل، حتى لبدت فعلاً أنها مونولوغ يستحق أن يكون عملاً مونودرامياً، طالعاً من عمق التجربة التي خاضها بيكيت في الرواية والمسرح.