"أمّا أنت يا من أنقذتنا، أيها البدويّ الليبيّ، فإنك سوف تُمحى من ذاكرتي إلى الأبد. ولن أعود أبداً لتذكّر ملامح وجهك. لكنك ستكون لي الإنسان وحسب. الإنسان الذي ستظهر لي بملامح كل البشر في وقت واحد. أنت الذي لم تتفرّس في وجوهنا أبداً ومع ذلك تعرّفت إلينا. ومن هنا أنت أخونا الحبيب. وأنا بدوري سوف أتعرّف عليك في كل البشر".
تشكّل هذه السطور فقرة من واحد من فصول كتاب عنوانه "أرض البشر"، قد لا تكون له الشهرة التي نالها كتابان على الأقل لمؤلفه نفسه، وهما "الأمير الصغير" و"طيران الليل"، لكنه بالتأكيد يجدر به أن يعتبر أهمّ أعماله وأكثرها عمقاً، مع أنه في نهاية الأمر لا يعدو أن يكون شذرات من السيرة الذاتية للكاتب.
والكاتب هو بالطبع أنطوان دي سانت إكزوبري، الذي يعدُّ واحداً من أشهر الكتّاب الفرنسيين في القرن العشرين، ناهيك بأن كتابه "الأمير الصغير" بِيع وقُرئ بعشرات ملايين النسخ، التي بيعت منه ومن ترجماته إلى أكثر من 180 لغة، ما يجعله واحداً من أكثر الكتب انتشاراً بالعالم.
اكتشاف الإنسان
لم يترك سانت إكزوبري وراءه سوى ستة أو سبعة كتب، وليس ذلك تقصيراً منه، أو لبطء في الإنتاج، بل لاختفائه باكراً، قبل أن يصل إلى الخامسة والأربعين من عمره خلال رحلة طيران كان يقوم بها في عام 1944 كما سنرى بعد سطور. أمّا هنا فلا بأس من التوقف عند "أرض البشر"، والاحتفاء بعد أسابيع قليلة بالذكرى 120 لولادة هذا الكاتب والطيّار الاستثنائي في تاريخ الأدب الفرنسيّ.
لم يصغ سانت إكزوبري "أرض البشر" على شكل كتاب متكامل، لكنه ركّبه من جملة مقالات ودراسات وخواطر سابقة، كان نشرها خلال العقد الثلاثيني في مجلات ومناسبات متنوّعة. لكنه عاد واشتغل عليها بحيث دمجها في بعضها بعضاً، لتشكّل نصّاً متكاملاً، يحمل من التأملات والأفكار الإنسانية أكثر كثيراً مما يحمل من سياقات منسابة متكاملة مع بعضها بعضاً.
بالتالي، يبدو الكتاب في النهاية أشبه بحكمة وتجربة حياتية، ربما يمكن للفقرة التي استعرناها أعلاه من أحد فصوله أن تكون علامة عليه، بما تحمله من حسّ إنساني أخويّ بين البشر، ينطلق من حادثة حقيقية يرويها لنا الكاتب في الفصل الذي يضم تلك الفقرة.
فلئن كان المنطلق هنا مغامرة تتعلق بهبوط اضطراري للطائرة التي كان يقودها كاتبنا فوق الصحراء في شمال أفريقيا جعله يتوه في الصحراء مع ميكانيكيّ كان يرافقه، فإنّ ظهور ذلك البدوي الليبي من حيث لا يدريان وإنقاذه لهما من دون سؤال وكلام، جعله يكتشف، حسب ما يخبرنا، الإنسان كل إنسان في ذلك البدويّ، ما يدفعه إلى ذلك النوع من التأمّل الخلاق المازج بين سرد المغامرات و"اكتشاف" الإنسان، وأن هذه الأرض التي نعيش عليها هي أرض البشر الذين ليس لهم سواها. ولنذكر، أنّ في واحدٍ من فصول هذا الكتاب تظهر تلك العبارة التي ستشتهر وتُستخدم كثيراً لاحقاً في فرنسا: "إنه موتسارت ذلك الذي يغتالونه"، وفيها يتحدث سانت إكزوبري عن طفل مهاجر تطرده السلطات إلى بلده الأصليّ!
هذا النوع من الأفكار التي يدور معظمها حول الصداقة والبطولة والموت، ومعنى المغامرة تحت شعار الإنسانية جمعاء، هو جوهر هذا الكتاب المؤلَّف أصلاً من نحو 220 صفحة، الذي حقق حين صدوره عام 1939 نجاحاً كبيراً كنوع من التمهيد للنجاح الهائل، الذي سيكون لاحقاً لما سوف يصدره سانت إكزوبري من كتب، لا سيما بالطبع "الأمير الصغير".
اختفاء غامض
لن يعرف أحد، بالطبع، التاريخ الحقيقي لرحيل سانت إكزوبري، لكن من المؤكد أن الـ31 من يوليو (تمـوز) 1944 هو التاريخ الذي اختفى فيه غير تاركٍ أي أثر، إذ استقلّ طائرته عند الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، منطلقاً من قاعدة باستيا - يورغو في جزيرة كورسيكا، متوجهاً إلى منطقة غرينوبل - آنيسي، وهي رحلة كان من المفروض أن تستغرق ثلاث ساعات على الأكثر، لكن حين حلّت الواحدة والنـصف ظهراً، ولم يبد لسانت إكزوبري أو طائرته أي أثر، عمّ القلق الجــميع، خصوصاً أنـهم كانوا يعرفون أن الوقود الذي يحمله لا يكفي أكثر من ساعة إضافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا، بدأت حملات التفتيش عن الطائرة، ورأى البعض أن الطائرات المقاتلة الألمانيـة ربما تكون اعتـرضت طائرته وأســقطتها، أمّا قيادة قوات الحلفاء في المنطقة فأكدوا بعد سلسلة من عمليات الاستطلاع أن المنطقة لم تشهد، في الحـقيقة، أي معركة جوية. وكانت النتيجة أن اُعتبر سانت إكزوبري مفقوداً منذ ذلك الحين، واُعتبر ذلك تاريخ رحيله.
والاهتمام الاستثنائي بسانت إكزوبري لم ينبع بالطبع من كونه طياراً، فما أكثر الطيارين الذين كانوا يسقطون ويختفون ويُقتلون في ذلك الحين، أي خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، بل إن الاهتمام نبع من كون ذلك الطيار، في الحقيقة، واحداً من أكبر وأهم الأدباء الذين عرفتهم اللغة الفرنسية خلال الربع الثاني من القرن العشرين. بالتالي فإنّ الاهتمام الكبير برحيله كان على حجم الاهتمام بكتابه "الأمير الصغير"، الذي كان صدر قبل ذلك الاختفاء بعام ونيّف.
ونعرف بالطبع أن "الأمير الصغير" هو الكتاب الفرنسي الذي يُقرأ حتى الآن أكثر من أي كتاب فرنسي آخر، إذ تُرجم إلى أكبر عدد من اللغات، ومع هذا على الرغم من شهرة الكتاب وكاتبه، فإن القدر لم يمهل الأخير حتى يحقق المشروعات الكتابية كافة التي كان يطمح إلى تحقيقها، هو الذي لم ينشر له خلال حياته القصيرة (1900 - 1944) سوى خمسة كتب، أولها "بريد الجنوب" 1928، وآخرها "الأمير الصغير" و"رسالة إلى رهينة" (الاثنان نشرا عام 1943)، إضافة إلى "طيران الليل" 1931، و"أرض البشر" 1939، و"طيار حربي" 1942. أمّا كتب سانت إكزوبري الأخرى، ومنها رواية "قلعة" التي لم تكتمل، فنُشرت بعد رحيله، ومعظمها مجموعات رسائل أو شذرات من ذكريات.
أدب وطيران في بوتقة واحدة
ولد أنطوان دي سانت إكزوبري عام 1900 في ليون لأب نبيل، وأغرم بالطيران والأدب معاً منذ طفولته، وكان في الثانية عشرة حين قاد طائرة للمرة الأولى، وكتب في وصف ذلك "قصيدة جوية"، ثم نال عامي 1921 و1922 شهادتي الطيران المدني والعسكري، وصار طياراً على خط تولوز - المغرب، وبدأ يستعير من تجربته المادة التي ساعدته على كتابة نصوص كتابه الأول "بريد الجنوب".
أمّا شهرته الحقيقية كاتباً فبدأت عام 1931، حين أصدر كتابه "طيران الليل"، إثر إنقاذه الفرنسي غيوما الذي كان ضائعاً في جبال الأنديز، فقدم له أندريه جيد وفاز بجائزة فمينا. واستقبله الجمهور استقبالاً كبيراً، خصوصاً أن شهرة مؤلفه طياراً ومغامراً كانت انتشرت.
ومع هذا يبقى كتابه "الأمير الصغير" أبسط كتبه وأشهرها، لأن سانت إكزوبري لخّــص فيه تجربته الحــياتية، حيث نراه، في نصّ خادع يبدو للوهلة الأولى وكأنه كتب للصغار، يطرح أسئلة وجودية عميقة وجوهرية، كانت هي السائدة في تلك المرحلة من القرن العشرين: لماذا نحن هنا؟ وما الذي تُرانا نفعله؟ وما القيم التي يجدر بنا أن نناضل من أجــلها؟ ولعل أبرز ما في ذلك الكـتاب ما عبر عنه كاتبه من هوس بالصــحراء التي كان أولع بها منذ حقق فيها ذلك الهبوط الاضطراري حيث أنقذه البدويّ الليبيّ الغامض، فراحت تعبر بالنسبة إليه عن الفراغ اللا متــناهي والصفاء الخالص، وعن تمكّن الإنسـان المغامر من التخلص، في لا نهائية الصحراء، من كل ما يمت إلى المادة بصلة، وصولاً إلى اكتشافه عظمة الإنسان في ملامح إنسان واحد، بدويّ أنقذه ورفيقه في الصحراء الليبية.