على الرغم من تجاوز الحكومة الانتقالية في السودان أول أزمة سياسية علنية بين مجلسي السيادة والوزراء بسبب محاولة إقالة وزير الصحة، إلا أن أجواء الخلافات ما زالت تتربع على الساحة السياسية خصوصاً بين مكونات قوى الحرية والتغيير الحاضن السياسي للحكومة، ما اعتبره البعض تهديداً لاستقرار واستمرار الفترة الانتقالية بحسب ما هو متفق عليه في الوثيقة الدستورية، بأن تقود البلاد إلى انتخابات حرة وحكم مدني، لكن المؤشرات تظهر عكس ذلك، إذ إن ما يجري قد يمهد الطريق إلى تمكين عسكري.
علماً أن سياسيين وأكاديميين اعترفوا لـ "اندبندنت عربية" بوجود توترات وتقاطعات بين الحلفاء والشركاء في العملية السياسية، بسبب الإخفاق والقصور في سياسات وأداء أجهزة الحكم ما أثر في الأوضاع السياسية والمعيشية في البلاد، لكنهم استبعدوا حدوث أي أجهاض لمكتسبات الثورة الشعبية التي أطاحت نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، عن طريق تمكين عسكري أو ما شابهه من مغامرات عسكرية، نظراً لوعي وقوة الشارع السوداني الذي يعد الحارس واللاعب الأساسي في هذه العملية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقاطعات وإخفاقات
في هذا الشأن، يقول نائب رئيس حزب الأمة القومي السوداني فضل الله برمة "صحيح توجد تقاطعات كثيرة في الشأن السياسي، لكن الشيء المهم أن هناك نقاشاً يجري الآن على الطاولة بين المجموعات الحزبية المختلفة، وهو في نظري حوار مثمر جداً ويدور حول مجمل القضايا منها ضرورة إيجاد عقد اجتماعي جديد لبناء السودان، وعقد مؤتمر دستوري لمعالجة المشكلات كافة التي تعاني منها البلاد منذ الاستقلال، وفي الوقت نفسه هناك إقرار بوجود إخفاق وقصور واضح في الجانب الحكومي والسياسي والاقتصادي وهو معروف أن أسبابه موروثة من النظام السابق، فضلاً عن وجود احتقان سياسي، لكن المهم أن هناك تحديداً للمشكلات وجدية للوصول إلى نقطة لقاء تقود إلى استقرار البلاد".
أضاف برمة "هناك حرص من المكوّنَين المدني والعسكري على حماية الديمقراطية وعدم العودة إلى الأنظمة الشمولية، وهذا ما أكده رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح برهان، ونائبه محمد حمدان دقلو، من خلال تصريحاتهما الأخيرة التي أكدا فيها احترامهما رغبة الشعب السوداني التي تجلت في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، والحفاظ على مكتسباتها والتصدي للمحاولات البائسة التي تقوم بها عناصر النظام السابق للعودة إلى الوضع القديم، وهو أمر مستحيل لأن فترة الـ 30 سنة من الحكم الدكتاتوري أوصلت البلاد إلى دمار شامل مكتمل الأركان".
جبهة عريضة
وأشار نائب رئيس حزب الأمة القومي السوداني أيضاً إلى أن سلبيات العهد السابق كثيرة جداً ولا يمكن التخلص منها بسهولة، فضلاً عن ذلك، هناك من لا يريد الديمقراطية ويعمل على إجهاضها، من خلال بثّ الإشاعات المعتمدة على الأخبار الكاذبة والمحبطة، لكن في النهاية الحق يعلو ولا يعلى عليه، ومهما يكن، فإن الكلام العلني الدائر سواء كان يحمل نقداً للممارسة السياسية أو للأداء الحكومي وغيره، فهو ظاهرة صحية.
واعتبر برمة الشراكة المدنية العسكرية القائمة الآن بموجب الوثيقة الدستورية الموقعة بين الجانبين في 17 أغسطس (آب) 2019 من الإبداعات السودانية، وأنها لم تأت اعتباطاً، بل كانت نتاج انحياز كامل للثورة، إذ سطرت القوات النظامية بأفرعها المختلفة ملحمة وفاء عندما وقفت بجانب خيارات الشعب حقناً للدماء، وبالتالي أصبح هناك إجماع مدني عسكري من الصعوبة بمكان أن يتخلى طرف عن الآخر.
وتابع "استبعاد مسألة التمكين العسكري أو أي مغامرة عسكرية، حسمها موكب 30 يونيو (حزيران) 2019، الذي أظهر قوة الشارع السوداني، ورفضه أي تغول عسكري، لذلك، فإن التعويل على الشارع أضعف حلقات علاج الصراعات السياسية التي تحدث من حين إلى آخر بالقوة، فضلاً عن أن الاحتقان السياسي لا يمكن علاجه بالبندقية"، وأوضح أن ما يحدث حالياً من اختلافات سياسية داخل مكونات قوى الحرية والتغيير يتطلب إعادة صياغة لمشروع سياسي جديد يقوم على توسيع قاعدة المشاركة في أجهزة الحكم الانتقالي من خلال تكوين جبهة عريضة تضم كل من عارض نظام البشير طيلة فترة حكمه، ووضع ميثاق شرف يلتزم به الجميع.
تأمين الثورة
في سياق متصل، علّق عضو الهيئة المركزية في الحزب الشيوعي السوداني صديق يوسف على ما يدور من إرهاصات في الساحة السياسية في السودان قائلاً "نعم، هناك توتر سياسي في البلاد، لكن من الأشياء المهمة هي اتفاق شركاء الحكم الانتقالي على المصفوفة السياسية الجديدة، وهي ستعمل على تهدئة الأوضاع واستبعاد أي مخاطر محدقة بالبلاد، لأننا لا نريد انتكاسة ثانية ورجوعاً إلى الوراء، بل تأمين الثورة ومكتسباتها".
وأكد أن الشراكة المدنية العسكرية تسير في الاتجاه الصحيح من دون أن تكون هناك مخاوف تؤدي إلى تمكين عسكري أو ما شابه ذلك من مغامرات، مبيناً أن قوة الشارع السوداني هي بمثابة الضامن الحقيقي لمواصلة واستمرار الحكم المدني.
أضاف يوسف "نعمل حالياً على وضع الصلاحيات والمسؤوليات للأجسام الثلاثة المعنية بالحكم الانتقالي، وهي مجلسا السيادة والوزراء وقوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وإذا ما توصلنا إلى اتفاق في هذا الخصوص فلن يكون هناك صراع بين هذه الفصائل، لأن سبب المشكلات التي حدثت في السابق كانت نتيجة لاتخاذ المجلس السيادي قرارات مهمة من دون مشورة شركائه في الحكم"، موضحاً أن الخلافات بين أركان الحكم برزت منذ وقت بعيد بسبب عيوب الوثيقة الدستورية، والسياسات المالية المتبعة لمعالجة الأزمة الاقتصادية، لكن الآن، نتجه نحو وفاق واتفاق بعد نقاشنا المستفيض لتجربة الحكم من حيث الإيجابيات والإخفاقات.
تجنب النزاعات
ويرى أستاذ العلاقات العامة بالجامعات السودانية النور جادين، أن تحول السودان إلى حكم مدني أو آخر عسكري يتوقف أولاً على سلامة تصرف الحكومة المدنية، وعلى تجنب النزاع مع المكون العسكري، فضلاً عن حرصها وعملها على الاحتفاظ بقاعدتها العريضة من الثوار وكل من كره حكم الحركة الإسلامية، وقال "لكي تضمن الحكومة الانتقالية مستقبلاً للحكم المدني في السودان لا بدّ لها من عوامل عديدة تساعدها على ذلك، من أهمها مساندة المجتمع الدولي واعترافه بأهمية التغيير الذي حدث في البلاد، وأنه يخدم السلام والأمن الدوليين، وسرعة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ما يساعد على الاستفادة من مؤسسات التمويل الدولية خصوصاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فضلاً عن إلغاء أو تأجيل ديون السودان التي تقدر بحوالى 60 مليار دولار وهو ما يفتح باب التعامل الدولي وجذب المستثمرين الأجانب".
كذلك من العوامل المساعدة للحكم المدني ضرورة الوصول إلى سلام مع الحركات المسلحة من خلال تقديم تنازلات حقيقية في مجال الحكم الذاتي لبعض مناطق الأطراف والحرب مثل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، إلى جانب استبعاد الموالين للنظام السابق من الأجهزة الأمنية باعتبارهم ضد التغيير الذي حدث في البلاد، إضافة إلى تعميق الشعور بالتغيير الحقيقي لدى المواطن عبر نشر قيم وسلوك الحرية والعدالة، لأنه من غير المقبول ممارسة الحكومة الانتقالية سلوك حكم النظام السابق نفسه المتمثل في الظلم ومصادرة الحريات، فضلاً عن التفاف الكيانات والأحزاب ذات الثقل السياسي، والإدارات الأهلية وغيرها من الجماعات الدينية المعتدلة حول هذه الحكومة ودعمها، والابتعاد عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية.
وخلص جادين إلى أن هناك كثيراً من المخاطر والإخفاقات والسلبيات التي تهدد الحكم الانتقالي تتطلب من الحكومة سرعة معالجتها، مشدداً إلى أن أهم ما يقف عقبة أمام أي محاولة تمكين عسكري هو ثقافة وإحساس الثوار وعامة الناس بأن مثل هذا التمكين سيرجعهم إلى حكم النظام السابق وممارساته، إلى جانب رفض المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي قيام أنظمة عسكرية دكتاتورية.
فترة انتقالية
ويحكم السودان حالياً حكومة انتقالية مكونة من مجلس سيادي ومجلس وزراء، في إطار شراكة بين قوى الحرية والتغيير قائد الحراك الشعبي في ثورة ديسمبر، والمجلس العسكري الذي تكوّن عقب سقوط النظام السابق، وذلك لفترة انتقالية مدتها 39 شهراً، على أن تعقبها انتخابات ديمقراطية تشكل سلطة مدنية من الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني كافة.