عُرف عن السينمائي الدنماركي لارس فون ترير اشتغاله على موضوعات أفلامه من طريق ثلاثيات يكتمل بعضها فيما يتراخى من دون استكمال البعض الآخر، وهكذا نراه مثلاً يحقق في بداية مساره ثلاثية حقيقية تتضمن "عناصر الجريمة" و"وباء" و"أوروبا"، الذي اشتهر عربياً بكونه قاسَمَ فيلم "خارج الحياة" للبناني الراحل مارون بغدادي جائزة محكّمي مهرجان كان الخاصة في دورة عام 1992، فيما لم يستكمل أبداً ثلاثية "يو إس إي"، فلم يحقق منها سوى "دوغفيل" و"ماندرلاي" حتى اليوم، مؤجلاً "واشنطن" إلى أبد الآبدين. وهو بينهما حقق فيلمين من ثلاثية "القلب الطيب" وآخرَيْن من ثلاثية "الشر"، ناهيك بتحفته "ميلانكوليا" عن نهاية العالم، الذي قدّمناه قبل فترة في هذه الزاوية.
المهم هنا هو أنّ الثلاثية الأولى تبدو الوحيدة المكتملة، علماً بأنها هي التي قدّمت فون ترير إلى السينما العالمية، جاعلة منه أحد كبار المجددين فيها سواء كان حديثنا عن الأشكال واللغة السينمائية أو عن الموضوعات. والحقيقة، أننا إذا كنا قد اخترنا أن نتوقّف هنا عند الحلقة الوسطى في هذه الثلاثية لمناسبة ما نعيش، فإنّ الأمر يتجاوز هذه الظرفية ومن بعيد، حتى وإن كان ينطلق منها بالنسبة إلينا بالطبع.
تأثير الوباء في البشر
فيلم "وباء"، أو بالأحرى كي نكون دقيقين في الترجمة "وبائي" باستخدام صيغة الصفة لا الاسم، الذي حققه فون ترير عام 1987 ليكون ثاني أفلامه الروائية الطويلة، يتحدّث عن الوباء وانتشاره وتأثيره السيكولوجي في الناس، بحيث يمكنه أن يشكّل تفسيراً ما للوضعية التي تعيشها البشرية جميعها في هذه الأيام بسبب انتشار وباء كورونا، وإجباره الناس الذين يستبدّ بهم رعب وجودي على التزام منازلهم.
هذا صحيحٌ. غير أنّ الفيلم لا يتناول موضوعه مواجهة كما تفعل ومنذ حين أفلام كوارثية ووبائية عديدة، تحدّثنا عن بعض أهمها كما عن بعض أقلها شأناً خلال الفترة المنصرمة، بل إنه يتناوله بشكل موارب تماماً، بل يمكن القول إنه يتناوله من خلال أسئلة الفنان الحقيقي وحيرته: أي من خلال الفن، وقد رأى أن عليه أن يبحث كيفية تناول الموضوع.
والحقيقة، أن هذا الجانب هو الذي يجعل فيلم فون ترير هذا تأملاً في الفن (السينمائي)، إضافة إلى كونه بالطبع وبالضرورة تـأملاً في الإنسان وهو يواجه الوباء. ويقيناً أن تميّز هذا الفيلم يكمن هنا، بالتالي نراه يستحوذ على فرادته وأهميته. فلارس فون ترير، إذا كان قد شاء لفيلمه الأول السابق على "وباء"، "عناصر الجريمة"، أن يكون في الوقت نفسه تحية لمنجزات سينما الجريمة الأميركية، ثم أراده من ناحية أخرى أن يكون استعادة نوع من السينما التعبيرية الألمانية التي سادت قبيل الحرب العالمية الثانية وصعود النازية، محدداً خلف أحداث الفيلم موضوعه: إنه انهيار أوروبا.
وفي هذا الإطار لم يكن صدفة أن "بطله" فيشر إنما سعى إلى خلاصه خارج القارة العتيقة لاجئاً إلى مصر مثلاً. فها نحن نراه في الفيلم التالي "وباء" يصوّر رؤية فنية ما لأوروبا، وقد باتت في نظر الفنان داخل الفيلم أرض الموت والخراب، ولنلاحظ أنه فعل ذلك قبل عقود من تحويل كورونا أوروبا بالفعل إلى قارة موت وخراب ذات لحظة أمام أنظارنا وخارج إطار الحروب التي كانت في الماضي قد اعتادت أن تجعل منها أرض خراب كذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولنقل هنا إن مُخرجنا، إذ حقق هذا الفيلم الثاني في العام 1987، شاء هنا، من دون أن يجعل من نفسه متنبئاً، بعد النجاح الذي حققه فيلمه الأول في مهرجان "كان" ثم لدى الجمهور الدنماركي والجمهور الأوروبي عموماً، والفرنسي خصوصاً، شاء أن يوسِّع من دائرة رؤيته للخراب الأوروبي. لكن أيضاً وفي الوقت نفسه أن يؤكد تحيته لفن السينما. ومن هنا جاء "وباء" فيلماً عن أوروبا وعن السينما أيضاً، بل ربما نقول عن السينما خصوصاً، رغم ما قد يُرى فيه اليوم من تركيز على فكرة الوباء الأوروبي نفسها!
من دون تخطيط مسبق
وهنا لنعد إلى الوراء بعض الشيء لنتذكّر أنه عندما حقق لارس فون ترير فيلم "عنصر الجريمة"، وعرضه في "كان"، محققاً به دخوله خريطة السينما العالمية من باب واسع، لم يكن أحد يعرف أن ذلك الفيلم السوريالي، النفساني، الأسود، سوف يكون جزءاً أول من ثلاثية، بل إن لارس نفسه لم يكن مدركاً ذلك، إلا بشكل غامض.
المسألة بالنسبة إليه كانت تقوم في تصفية حسابه مع أوروبا وتصوير انحطاطها، ثم التساؤل، من موقع أوروبي على أي حال، عن معنى أن يكون المرء دنماركيّاً. وإذا كان من الصعب تلمّس هذا في موضوع "عنصر الجريمة" فإنه ماثل لمن يحب أن يقرأ بين السطور في ثنايا الفيلم بجوِّه المكفهر القائم على الازدواجيات، كما في حواراته. فإذا بدا بعد كل شيء أن المسألة في حاجة إلى مزيد من التوضيح، سيأتي هذا بعد ثلاث سنوات في "وباء".
و"وباء" منذ بدايته تبدَّى فيلماً أسود، لكنه أتى عملاً تأملياً هادئاً عن الفن عموماً أيضاً، وهو تأمل لن يفوتنا أن نلمحه دائماً في ثنايا مجمل أفلام فون ترير التالية، لكن هذا ليس موضوعنا هنا بالطبع، إذ إنّ أحداثه تبدأ مع سينمائيَّين (هما في الفيلم وفي الحقيقة لارس فون ترير وشريكه نيلس فورسل) يعملان على إنجاز كتابة سيناريو فيلم يزمعان تحقيقه بعنوان "الشرطي والعاهرة".
لكن، الذي يحدث هو أن الأسطوانة التي طبعا عليها السيناريو مُحيت تماماً، ما أضاع عاماً بكامله من العمل. وهنا بدلاً من أن يعيدا الكتابة، يقرران وضع سيناريو جديد وتسليمه خلال أيام إلى الجهة التي تريد إنتاجه. والفيلم الجديد سيكون عن الطاعون الذي سيعصف بأوروبا، ويحمل عنوان "وباء".
عودة ما إلى النازية
وهكذا يبدأ الاثنان ببحوث حول الموضوع، ويزور فون تراير مؤرخاً ضليعاً في تاريخ الطاعون الذي ضرب أوروبا، خصوصاً لندن، في القرن الرابع عشر. وبالتدريج يصبح العمل على هذا الفيلم هو الفيلم الذي نراه أمامنا، وتدور أحداثه في أوروبا المعاصرة التي يضربها وباء الطاعون، وتنهار أنظمتها السياسية وتسودها الفوضى، ويدور فيها السينمائي باحثاً لا يلوي على شيء وسط مناخات تشي بعودة نازية ما إلى السلطة في مكان أو آخر، بينما تطارده وربما تحرسه طائرة مروحية عليها ممرضة (ستصبح زوجة لارس فون ترير في الحياة، وهي سيسيليا هوليك)، ستكون هي أولى ضحايا الوباء.
طبعاً، لا فائدة هنا من إيراد تلخيص لكل ما يحدث في الفيلم، ذلك أن التفاصيل متشابكة، وهي أحياناً بصرية صرف، لا يمكن للكلام وصفها. المهم أننا بسرعة نجدنا وسط هذا الفيلم غارقين، من ناحية في تأمّل حول فن السينما، ومن ناحية أخرى في سبر جواني للسيكولوجيا الفردية الجماعية التي تنتج عن سقوط أوروبا. وإذا كان هذا الفيلم اُستقبل استقبالاً كبيراً من قِبل النقاد، فإن سوداويته حيّرت المتفرجين العاديين.
ومع ذلك، يمكن أن نقول اليوم إنه إذا كان في مقدورنا أن نُحصي دزينات عدة من أفلام تناولت شتّى ظروف الأوبئة من الأكثر واقعية إلى الأوسع خيالاً، مروراً بالأكثر تخريفاً، فإن فيلم فون ترير هذا على تقشفه الإنتاجي وصعوبة تركيبه السيناريستي وعمق تأملاته السياسية والتاريخية والفلسفية، يمكن أن يُعتبر فيلم الأفلام، بالنظر إلى أنه إذا كانت أفلام "الأوبئة" والكوارث عموماً تخاطب غريزة المتفرج، وتتلاعب بمخاوفه، مستخدمة كل أنواع الضغط النفسي عليه، فإن "وباء" يخاطب عقل المتفرّج، ويدعوه إلى التفاعل بذكاء مع موضوع يهمه حقّاً، وعليه أن يشارك في رصد مآلاته فيه، ويبدو لنا أن هنا يكمن الدور الكبير للفن الحقيقي.