لم يكن انتخاب محمد باقر قاليباف رئيساً للبرلمان الإيراني شاذاً عن التوجه العام في أوساط النظام الإيراني لمنح المناصب العليا إلى المنتسبين لمؤسسة رجال الدين والحرس الثوري، فالرجل آتٍ من المؤسسة العسكرية الأمنية وتولى مناصب قيادية أثناء الحرب الإيرانية - العراقية وبعدها.
وعرفت الفترة التي تأسس خلالها الحرس الثوري التفاف مجموعة من الشبان المتحمسين حول رجال الدين للحفاظ على نظام إيران، وأسس التحالف بينهما حملة قمع شملت غالبية القوى التي شاركت في الثورة ضدّ الشاه، منها قوى ليبرالية وقومية ويسارية ونشطاء الشعوب غير الفارسية.
وكان محمد باقر قاليباف أحد هؤلاء الشبان الذين دخلوا مؤسسة الحرس من بابها العريض، إذ تولى قيادة فرقة "نصر" التابعة لإقليم خراسان في الحرب الإيرانية - العراقية، ولم يتعدّ سنه آنذاك 21 سنة، ومن قيادة تلك الفرقة التي ضمت متطوعين للقتال من مسقط رأسه، تدرج لقيادة الفرقة الـ25 التابعة للحرس وكان لا يزال في أوائل العشرينات من عمره.
قمع انتفاضة الأكراد
وشارك في العمليات العسكرية التي خاضها النظام الإيراني لقمع انتفاضة الأكراد غرب إيران عام 1980 ومنها توجه إلى جبهات القتال جنوب البلاد، وعندما وضعت حرب الثمانية أعوام أوزارها أصبح وكيلاً لقوات التعبئة الشعبية (الباسيج).
وشهدت فترة انتهاء الحرب حملة روّج لها النظام كثيراً لإعادة بناء ما خلّفته الحرب، وفتح النظام المجال أمام الحرس الثوري للمشاركة في مشاريع اقتصادية كثيرة وتأسس "مقر خاتم الأنبياء" المعني بالمشاريع الاقتصادية للحرس، وكان قاليباف ثاني مسؤول يتولى رئاسة الجناح الاقتصادي لهذه المؤسسة العسكرية الأمنية التي توسع نشاطها ليشمل قطاع الاقتصاد قبل أن يتوجه منتسبوها للهيمنة على المناصب السياسية المهمة في ما بعد.
وبعد سنوات من بدء الأنشطة الاقتصادية للحرس، تنوعت اهتمامات هذه المؤسسة، وشملت قطاعات مختلفة من بناء الطرق والمواصلات إلى النفط والبتروكيماويات فالنشاط البنكي والمالي وغيرها، وفي خضم الخلافات التي خاضتها طهران مع معارضيها الدوليين بسبب مشروعها النووي، تعرض الحرس الثوري وجناحه الاقتصادي لعقوبات دولية متعددة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتولى قاليباف بعدها قيادة القوة الجوية للحرس الثوري، وأثناء تلك الفترة شهدت إيران عام 1999 سلسلة احتجاجات طلابية بدأت من جامعة طهران وهتف خلالها المحتجون شعارات جريئة ضد النظام للمرة الأولى.
قمع الحركة الطلابية
وكان قاليباف وعدد من قادة الحرس الثوري ضمن الموقّعين على رسالة تهديد وجهوها إلى الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي ونشرت تفاصيلها صحيفة "كيهان"، وخاطبوا فيها خاتمي بالقول "لقد طفح الكيل وسنتدخل بشكل مباشر إذا لم تضع الحكومة نهاية لما يجري في البلاد".
وذكر قاليباف في ما بعد أنه وقاسم سليماني من كتب نص الرسالة وأشرفا على جمع تواقيع عدد من قادة الحرس الثوري قبل إرسالها إلى خاتمي.
وبعد أيام من تلك الرسالة، اقتحم منتسبو الباسيج وقوى الأمن الداخلي الحيّ الجامعي لجامعة طهران لقمع انتفاضة الطلبة، وظلت النقاشات حول طبيعة المواجهة تتردد في الصحافة المحلية التي عرفت أجواء انفتاح نسبي في ظل حكم الإصلاحيين، وتداول المعارضون اسم قاليباف كأحد المحرضين لذلك القمع، وأكد قاليباف في خطاب خلال حملته الانتخابية أمام منتسبي الباسيج أنه حمل هراوة لمواجهة المحتجين، مبرراً أداءه بالقول "للحفاظ على الأمن والهدوء، يجب على المرء أن يحمل الهراوة حتى لو كان يحمل رتبة لواء."
وبعد عام من تلك الحادثة، عين مرشد الجمهورية محمد باقر قاليباف رئيساً لقوى الأمن الداخلي المتهمة باقتحام الحي الجامعي.
التخلي عن اللباس العسكري
وبعد سنوات من مهام قيادة في المؤسسة العسكرية، تخلى محمد باقر قاليباف عن لباسه العسكري ليخوض عالم السياسة والنشاط المدني شأنه شأن الكثيرين من منتسبي الحرس الثوري، خصوصاً خلال فترة حكم محمود أحمدي نجاد، إذ عرف عنه القرب إلى الحرس الثوري والوصول إلى الحكم بواسطة دعم هذه المؤسسة، قبل أن ينقلب عليها بعد خلافات مع مرشد الجمهورية علي خامنئي.
وتولى قاليباف رئاسة بلدية طهران عام 2006 وقدم نفسه على أنه يدير البلدية وشؤونها بأسلوب "جهادي"، وهو مصطلح يتباهى به الكثيرون من منتسبي العسكر في أدائهم في الشؤون المختلفة. وفي عام 2008 قدمه الموقع الإلكتروني التابع لرؤساء بلديات العالم في المرتبة الثامنة بين القائمين على البلديات، رافق ذلك افتتاح مشاريع ضخمة في العاصمة طهران.
ومع هذا، طرحت ملفات فساد اقتصادي متعددة خلال توليه منصب عمدة طهران، أهمها قضية أثارتها صحيفة "شرق" الإيرانية في أغسطس (آب) 2016 تحدثت فيها عن بيع أموال تابعة للبلدية بما فيها أراض شاسعة على عدد من المسؤولين بأسعار رمزية، ونشرت صحيفة "معماري نيوز" بعدها تفاصيل رسالة لمؤسسة التفتيش العام وردت فيها تفاصيل هذه الصفقات، لكن رئيس تحرير الصحيفة أودع السجن بعد ما رفع قاليباف شكوى ضده.
وحرص قاليباف خلال توليه منصب عمدة طهران على الظهور في المناسبات العامة والمشاركة في افتتاح المشاريع الكبيرة في العاصمة، واتهمه خصومه باستغلال منصبه للدعاية لنفسه.
محاولات الوصول إلى المنصب الرئاسي
وخاض الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات ولم يفلح في أي منها. كان أولها عام 2005 واحتل المرتبة الرابعة بعد أحمدي نجاد ورفسنجاني ومهدي كروبي بحصوله على أربعة ملايين و700 ألف صوت، وفي عام 2013 خسر الانتخابات أمام حسن روحاني، وشكلت المناظرات التلفزيونية التي بثها التلفزيون الحكومي سلسلة نقاشات حادة بينه وبين روحاني، خصوصاً عندما فتح الأخير ملف قمع الحركة الطلابية، وأعلن قاليباف خلال إحدى هذه المناظرات أنه يعتز بمشاركته في مواجهة المحتجين إلى جانب القوى الأمنية.
وخاض عمدة طهران السابق الانتخابات الرئاسية عام 2017 مرة أخرى أمام حسن روحاني في ظل إقصاء أحمدي نجاد من خوض التنافس الانتخابي، وشكلت تلك الفترة فرصة لخصومة لطرح قضايا الفساد في بلدية طهران كما تناول الإصلاحيون شعاراته الانتخابية، إذ كان قد وعد برفع موارد البلاد بنسبة ضعفين ونصف الضعف، وأنه سيعمل على إيجاد خمسة ملايين فرصة عمل، لكن خصومه شككوا بشعاراته في ظل الهبوط الحاد في نسبة النمو في البلاد. وفي نهاية المطاف، تنازل لصالح المرشح المحافظ إبراهيم رئيسي الذي قدمه المعارضون على أنه مرشح المرشد.
وخاض قاليباف انتخابات مجلس الشورى السابقة على رأس قائمة التيار المحافظ في طهران وفاز جميع أعضاء القائمة في ظل إقصاء نسبة كبيرة من الإصلاحيين، ولم تكن رغبته بالوصول إلى منصب رئاسة المجلس مفاجئة، لا سيما أن رئيس المجلس السابق علي لاريجاني لم يترشح للانتخابات.
وحصل محمد باقر قاليباف على 230 صوتاً من أصل 267 ليتولى رئاسة برلمان يشكل المحافظون فيه الغالبية.