هاجت الدنيا وماجت على صفحة السكان في المنتجع السكني الراقي على أطراف القاهرة. كتبت ساكنة: "ما يحدث في أسفل العمارة يومياً شيء يندى له الجبين. مجموعات من الشباب والفتيات يشغلون موسيقى بصوت مرتفع ويرقصون ويصورون أنفسهم. أعوذ بالله من غضب الله".
تصنيف ما يجري باعتباره "غضب الله" متمثلاً في مقاطع "التيك توك" يصورها الشباب والفتيات ويحملونها على "التيك توك" وجد إجماعاً بالأغلبية المطلقة بين السكان الذين أخذوا يصبون جام الغضب عبر الكلمات المنددة بالشباب والفتيات الذين ابتعدوا عن دينهم ونسوا تقاليدهم وتركهم الأهل نهباً لـ"تيك توك" مارق ومن قبله "إنستغرام" فاجر وبينهما "يوتيوب" فيه من الموبقات ما هو كفيل بإسقاط أمم وإفشال مجتمعات.
منصات تهدد الأخلاق
الغريب أن مجتمعات بعينها ترى في "التيك توك" وأسلافه من "إنستغرام" و"فيسبوك" و"يوتيوب" وغيرها مصدراً مستمراً لتهديد الأخلاق ومكمناً شريراً للإطاحة بالعادات وسبباً مستمراً لتنصيب المجتمع وأجهزة الدولة مراقباً على الأخلاق الحميدة ومصححاً للسلوكيات القويمة.
"التيك توك" - التطبيق المتاح على الشبكة الاجتماعية لتداول مقاطع الفيديو التي خرجت إلى النور في سبتمبر (أيلول) عام 2016 من قبل الصيني مؤسس شركة "دانس بايت" تشانغ يي مينغ التي تمتلك "التيك توك" – انتقل في مصر من خانة مرموقة في عناوين صفحات تكنولوجيا المعلومات والمنوعات والفنون والآداب والثقافة "التيك توك في مصر يساعد الشباب والفتيات على التعبير عن مواهبهم" و"التيك توك يحقق نجاحات غير مسبوقة في مصر" إلى خانة مميزة أيضاً لكن في صفحتي الحوادث والدين.
التطبيق المستخدم لنشر مقاطع أغلبها يحمل مواهب (أو اعتقاداً في وجود مواهب) في التمثيل والغناء والرقص توسع بشكل غير مسبوق على مدار أسابيع الحظر التي بدأت في منتصف مارس (آذار) الماضي. فقد وجد المستخدمون والمتلقون في التطبيق المثير فرصة ذهبية للتعبير عن الموهبة وفي الوقت نفسه متابعة ومشاهدة الموهبة، ومن ثم إما إعجاب ومشاركة على مواقع تواصل أخرى، أو التفرغ لتوجيه الاتهامات وإصدار الأحكام وتعليق المشانق لمن يثبت بحسب معايير كل متابع الشخصية أنه فاسق أو زنديق أو خارج على العادات والتقاليد أو ضارب بالدين والمتدينين عرض الحائط.
حوائط مبكى الثورة الرقمية
ولان حوائط المبكى في زمن الثورة الرقمية وتقنية المعلومات والإتاحة غير المسبوقة للاتصال بشبكة الإنترنت ومواقع تواصلها الاجتماعي عديدة ومتشعبة، ولأن المجتمع غارق منذ سبعينات القرن الماضي في غياهب شكل حداثي من أشكال التدين قائم على تصنيف المواطنين على مقايس التدين بحسب نوع الملابس وهوية المفردات المستخدمة وعدد مرات التردد على دور العبادة، فقد تم وضع "التيك توك" بمحتواه تحت مجهر التقييم الأخلاقي الشعبوي الذي يلمس ويتلامس ويمس التفسيرات الشعبية للدين والرائجة على مدار نصف القرن الماضي.
وفي العام الماضي، وتحديداً في سبتمبر، أعلنت الشركة المالكة لـ"التيك توك" أن تطبيقها شهد نمواً هائلاً في مصر في أشهر معدودة. وقالت مديرة الاتصالات الإقليمية في "التيك توك" لمنطقة أفريقيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا حينئذ السيدة غيتا غائماغام أن مصر من واحدة من الدول الثلاث الرئيسية في الشرق الأوسط التي تفاعل مستخدموها بشكل مذهل مع تطبيق "التيك توك" بالإضافة إلى السعودية والإمارات. وأوضحت أن الاستخدامات الفنية من غناء ورقص هي أكثر الموضوعات استخداماً من قبل المصريين. وقال مدير عمليات المحتوى في "التيك توك" لمنطقة شمال أفريقيا السيد هاني كامل أن الدور الرئيسي للتطبيق هو "تعزيز القضايا الاجتماعية".
جذب الانتباه
اجتماعياً تقول أستاذة علم الاجتماع الدكتورة هدى زكريا أن العديد من استخدامات مواقع التواصل الاجتماعي مثل "التيك توك" يهدف إلى رغبة المستخدمين في جذب الانتباه وتحقيق الشهرة من دون النظر إلى أخلاقية الأسلوب أو مناسبته للعادات والتقاليد. وترى زكريا أن الأسلوب الأمثل هو تجاهل مثل هؤلاء، لأن إعطاءهم الاهتمام عبر تحليل ونقد ومشاهدة مايفعلون تحقق لهم غايتهم ألا وهي تحقيق الشهرة والانتشار على حساب عادات المجتمع وقيمه.
الغريب أن "عادات المجتمع وقيمه" وحالات الهلع والفزع التي تنتاب العديد من الأوساط كلما ظهرت تقنية جديدة أو انتشرت ظاهرة حديثة أصبحت متوقعة. تقول المعالجة النفسية الشابة السيدة مريم خليل إن قطاعاً عريضاً من المجتمع المصري لا يرى إلا نفسه. "بسبب تحجر وجمود الكثير من مكونات ما يعرف بالعادات والتقاليد، فإن كثيرين في المجتمع يعتقدون أن الكل يفكر بطريقتهم، ويتشارك في قائمة الأولويات نفسها، ويعتنق الأفكار ذاتها. وهذا إحساس مريح للغاية في المجتمعات التي تصر على تجاهل ما يجري حولها وفي داخلها من تغيرات كبرى وتطورات هائلة، سواء في التقنيات أو تركيبة وأولويات الأجيال الجديدة".
حكم المجتمع
الأجيال الجديدة لا تلتفت كثيراً إلى حكم المجتمع على ما يظهر من تقنيات. كما لا يعنيه أن يعتبر حكماء المجتمع ومثقفوه هذا التطور خطراً داهماً أو تلك التقنية تهديداً للقيم. تقول خليل إن "التلفزيون حين انتشر في البيوت المصرية في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وجد من يحذر منه ويعتبره آفة العصر التي ستقضي على قيم المجتمع وعاداته. وحين انتشر الفيديو كليب تعالت الصيحات المحذرة من آثارها المدمرة في الشباب والأزواج والزوجات. وحين ظهر الإنترنت توالت التحذيرات أيضاً من ضياع الأخلاق وتبدد القيم. ثم جاء دور مواقع التواصل الاجتماعي التي قيل أيضاً إنها ستقضي على شباب الأمة وتبدد سلوكياتها وتهدم أخلاقها. وبعد مواقع التواصل، حان دور التطبيقات التي تظهر بالعشرات كل يوم، وتتعالى الأصوات محذرة من هوية الأمة وأخلاق الشباب وقيم المجتمع، وكأن الحل هو الوقوف في وجه التطورات والتقنيات والدفع بالمجتمع كله للدخول في حضانة تحمي أخلاق المواطنين من شرور التكنولوجيا".
وتخلص خليل إلى أن حماية الناس من شرور مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات العنكبوتية تكمن في سبل التربية في البيت والمدرسة، ونشر الثقافة والعلم المبنيين على التفكير النقدي وليس الانغلاق على الذات والأفكار المتحجرة لأنها سرعان ما تنهار أمام طوفان الأفكار والاستخدامات الجديدة، أو يواجه الشخص مشكلات نفسية لا أول لها أو آخر حيث يتجه إما إلى الانغلاق الزائد والعزلة أو إلى الانفتاح المبالغ فيه وكسر كل القواعد والقيم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كسر القواعد
كسر القواعد والقيم على "التيك توك" صار اتهاماً قائماً، وهو تارة يوجه إلى الأجيال الجديدة باعتبارها أجيالاً منفلتة لا تحترم العادات ولا تتبع التقاليد، وتارة أخرى إلى التطبيق ذاته وكأنه معول هدم وليس منصة وأداة يمكن استخدامها للهدم أو للبناء.
وقد شهد المجتمع المصري خلال أسابيع الحظر انتشاراً وشعبية متنامية لـ"التيك توك" الذي يبدو أنه ملأ وقت فراغ الكثيرين من المحظورين والمحظورات، وجذبت مقاطعه أيضاً الملايين من المتابعين والمتربصين والمهتمين ليتحول "التيك توك" إلى حديث الساعة بين وقت وآخر.
الغريب أنه في كل مرة يكون مسمى "فتاة التيك توك" هو سيد الموقف. والأغرب أنه في كل مرة تكون فتاة التيك توك مختلفة. والأعجب أن السبيل لمواجهة "فتاة التيك توك" يكون بالقبض عليها على الأغلب للحفاظ على قيم المجتمع وكيان الأسرة.
فتيات "التيك توك"
في المرة الأولى تعرضت قيم المجتمع وكيان الأسرة للخطر حين انتشرت مقاطع طالبة جامعية اسمها حنين حسام على التيك توك وجذبت ملايين المشاهدات، ثم تسللت أخبارها ومحتويات فيديوهاتها إلى مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى ومنها إلى الإعلام التقليدي حيث تم نصب محاكم شعبية لها، ومنها إلى الشرطة التي ألقت القبض عليها واتهامها بالاعتداء على مبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري.
ثم تعرضت مبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري للخطورة حين انتشرت مقاطع لشابة مصرية اسمها مودة فتحي راشد ومعروفة على "التيك توك" باسم مودة الأدهم، إذ رصدت أجهزة الأمن ومباحث الآداب فيديوهات عدة لها وهي ترتدي "ملابس فاضحة" وتأتي بحركات فاضحة تحرّض على الفسق والفجور". وتابع الجميع مجريات القبض عليها، وخضوعها للتحقيقات وتفاعل الناس مع قضيتها تحت مسمى "فتاة التيك التوك" أيضاً.
وسرعان ما انتقل اللقب إلى فتاة التيك توك ثالثة اسمها منة عبد العزيز. لكن هذه المرة دخلت مواقع تواصل اجتماعي أخرى على الخط أيضاً. فمنة عبد العزيز لها حساب على "إنستغرام" و"التيك توك" ولها بضع آلاف من المتابعين. ظهرت عبد العزيز قبل أيام في مقطع وآثار تورمات وسجحات على وجهها واتهمت شاباً اسمه مازن بالاعتداء عليها واغتصابها. وتوترت ردود الفعل من قبل ملايين، بين هاشتاق مطالب بالقبض على المغتصب، وتدوينات هي الأكثر تداولاً مطالبة بحق منة. لكن بعد أيام، عاودت الفتاة الظهور لتخبر الملايين بأن مازن لم يغتصبها لكن ضربها، وأن الأمر انتهى.
لكن الأمر لم ينتهِ لدى الجهات الأمنية ومباحث الآداب التي سارعت بالقبض على عبد العزيز "التي اكتسبت لقب "فتاة التيك توك" هي الأخرى، وذلك بعد اتهاماها بـ"التحريض على الفسق والاعتداء على قيم المجتمع المصري".
قيم المجتمع في خطر
قيم المجتمع المصري التي تحرك أصوات ومشاعر الغاضبين ممن يرون في محتوى مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات العنكبوتية ما يعرِّض الأخلاق للخطر والتقاليد إلى الهاوية لا تلتفت على ما يبدو إلا إلى "التيك توك" المستخدم من الفتيات. وعلى الرغم من وجود ملايين المقاطع من قبل شباب ورجال بعضها يحتوي على كلمات وحركات يمكن أن تندرج تحت بند خدش الحياء العام والتحريض على الفسق والفجور وتعريض قيم المجتمع للانهيار، فإنها لا تلفت الانتباه، لا الشعبي أو الأمني أو النيابي.
مجلس النواب انتفض هو الآخر ضد "التيك توك" وما يحمله من تهديد للمجتمع ودعائمه. ففي أبريل (نيسان) الماضي تقدمت عضو مجلس النواب النائبة شادية خضير الجمل بطلب إحاطة موجه إلى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عمرو طلعت حول "سوء استغلال التطبيقات العنكبوتية مثل "التيك توك" واستخدامها في أعمال منافية لقيم الجتمع المصري.
قيم المجتمع المصري التي تئن كثيراً تحت وطأة ظاهرة التحرش بالإناث والرشاوى وجرائم النصب والاحتيال والاستيلاء على المال العام والرصيف العام والأملاك العامة والبناء المخالف وغيرها وجدت في "فتيات التيك توك" شماعة أنيقة وواجهة تلهي الجميع عن قائمة المحتويات المتراكمة التي تحتاج الكثير من الاهتمام وإعادة البناء.
بناء المجتمعات
بناء المجتمعات حيث ملايين من الشباب والمراهقين تستخدم "التيك توك" وتعتبره المتنفس الأحدث لمواهبها وقدراتها ورغباتها في التواصل مع الآخرين وربما تحقيق قدر من الشهرة أو حتى مقدار من المال وملايين آخرين لا تعرف عن "التيك توك" إلا اسمه وربما لم تسمع عنه من قبل، لكنها تصدر أحكاماً عليه وعلى مستخدميه من قبيل أنه قد يأتي محملاً بالفيروسات الأخلاقية والمدمرات السلوكية، يحتاج قدراً أكبر من الفهم والجهد. يقول باحث الدكتوراة في مجال إعلام مواقع التواصل الاجتماعي علي أحمد، إن "ما يهدد الأخلاق ليست منصات وتطبيقات رقمية لكنها فجوات وهوات عميقة في التنشئة والتعليم والثقافة. فـ(التيك توك) شأنه شأن (فيسبوك) أو (تويتر) أو (واتساب) يمكن أن يستخدمه رجل دين للوعظ الديني أو تاجر مخدرات لعرض بضاعته أو عارضة أزياء لعرض خطوط الموضة أو عاملة جنس لاستقطاب عملاء. وحماية أخلاق المجتمع تحتاج تنشئة على أسس وتربية على انفتاح وتمكيناً من معلومات وغرساً لقيم وقدرات على التفرقة بين الحق والباطل وليس إغلاق منصات ومطارة مستخدمين ومستخدمات".
من الأبواب المغلقة إلى الفضاء العام
وفي السياق نفسه، تتساءل المعالجة النفسية مريم خليل، "هل كان المجتمع سينام مرتاح البال لو أن محتوى التيك توك مثلاً يتم تداوله في السر من دون أن يعلم به الآخرون، لا سيما من الأكبر سناً؟ هل القبض على سلسلة فتيات التيك توك رفع من التصنيف الأخلاقي للمجتمع وجعل منظومة القيم أعلى وأنقى؟" ورداً على سؤال حول سبب تعمد البعض من الشباب والشابات ضخ محتوى مثير للجدل على منصات وتطبيقات مثل التيك توك"، وتقول "أغلب الظن أن من يبالغ في تصوير مقطع مثير للجدل أو يناقض الأعراف السائدة أو يضرب عرض الحائط بعادات وتقاليد يشعر بنقص ما أو قلة ثقة في النفس أو رغبة عارمة في اكتساب شهرة، ما يدفعه أو يدفعها إلى تعريض نفسها للانتقاد المجتمعي والتصنيف السابق التعليب ألا وهو (تحض على الفجور) أو (تهدد قيم المجتمع). وحتى لا نكون كمن يدفن رأسه في الرمال خوفاً من مواجهة الواقع، علينا أن نسلم بأن طبيعة مجتمعاتنا العربية قد تقبل الخطأ أو غير المألوف طالما يحدث خلف الأبواب المغلقة. أما التيك توك، فهو قادر – كغيره من التطبيقات الحديثة – على نقل ما يجري خلف الأبواب المغلقة إلى الفضاء العام".
منظومة القيم في المجتمع المصري خضعت لدراسة مطولة ومعمقة قبل 11 عاماً، وذلك عبر دراسة رسمية أجراها أستاذ علم الاجتماع السياسي أحمد زايد، وخرجت بنتيجة مفادها أن شعور المواطن المصري بالظلم واليأس والإحباط وغياب العدالة وانعدام الثقة بين الشعب والحكومة وانحياز الدولة إلى أصحاب النفوذ على حساب البسطاء وزيادة أعداد الفقراء عوامل أدت جميعها إلى خلل منظومة القيم وألقت بظلال وخيمة على سلوكيات المواطنين بشكل عام. وجاء في الدراسة أيضاً أنه على الرغم من أن الشعب المصري مصنف بأنه "بالغ التدين"، فإن الفصل بين المعاملات والعبادات لدرجة انتشار الفساد الصغير شكل ظاهرة وسلوكاً يوميين.
وأوصى زايد بعدد من الحلول لإصلاح منظومة القيم من بينها إصلاح النظام التعليمي وعدم اقتصار دور المدرسة على تلقين المواد الدراسية، بل يجب أن تُـمارس دوراً أكبر في تعليم الطلاب السلوك الحَـسن والصِّـدق والثقة في الحياة والمجتمع والدولة.
ولأن "التيك توك" لم يكن متاحاً في عام 2009، فإن الدراسة لم تتطرق إليه باعتباره من أسباب الوهن الذي أصاب منظومة القيم المصرية. اليوم ما زالت المنظومة تعاني، وربما بقدر أكبر. وما زال المثقفون والمراقبون يعتبرون الأدوات والمنصات أسباب انهيار القيم بدءاً بالتلفزيون مروراً بالفيديو كليب وانتهاء بـ"التيك توك" لحين قدوم أداة جديدة.