انخرط مجلس النواب اللبناني في جدل حول عفوٍ عام يطال ألوف اللبنانيين المتهمين أو الموقوفين أو الهاربين إلى إسرائيل بعد انسحابها من الجنوب اللبناني.
لا رابط يجمع بين هؤلاء المطلوب شمولهم بالعفو إلا رغبة القوى الطائفية السياسية الحاكمة في إجراء صفقة مبادلة جديدة في ما بينها، مثل كل الصفقات السابقة التي أجرتها، أو اللاحقة التي ستجريها، وهي تشمل مروحة واسعة تتناول مختلف نواحي حياة الشعب اللبناني، من السياسة إلى الاقتصاد والمال إلى شؤون الحياة اليومية. وهذه القوى تُكرّر في ما تطرحه إمعانها الراسخ في نسف معنى الدولة والدستور والقانون، وتجعل القضاء مرة أخرى أُلعوبة لا قيمة لها.
يشمل مشروع العفو الذي لم يتمكّن مجلس النواب من إقراره في جلسته الأخيرة، أشخاصاً على علاقة بعالم المخدرات - زراعةً وتصنيعاً وتجارةً وتوزيعاً- وجُلّ هؤلاء ينتمي إلى الطائفة الشيعية، كما يشمل أفراداً على صلة بتُهمِ الاٍرهاب، بعضهم مُتهم والبعض الآخر موقوف على ذمة التحقيق ولم يخضع للمحاكمة، وأكثريتهم تنتمي إلى المذهب السُنّي، أما المجموعة الثالثة التي يطالها المشروع فهي تتألف من الذين فرّوا إلى إسرائيل لدى انسحابها من لبنان في عام 2000، وغالبيتهم تنتمي إلى الميليشيا التي أنشأتها دولة الاحتلال تحت اسم "جيش لبنان الجنوبي"، وهم من مختلف الطوائف وإن كانت الأكثرية المتبقية في فلسطين المحتلة من المسيحيين.
استقرت قوى السلطة على إجراء صفقة تشبه صفقات التبادل، أكثر مما تبحث عن تحقيق العدالة والمفاهيم الإنسانية، فالقيادة الشيعية تبحث عن سندٍ إضافي بين عائلات البقاع حيث غالبية المتهمين بالمخدرات، وتلك العائلات فيها وجوه من كبار التجار والمزارعين المطلوبين الذين يدمجون بين "نضالهم" من أجل العفو وانضوائهم تحت لواء "الثنائي الشيعي" في معركته وممانعته وحربه السورية وطموحاته الإيرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والقيادة السنية تحمل لواء مظلومية الموقوفين الإسلاميين وتخوض معركتهم بحسب الظروف، وهي في أوضاع لبنان الراهنة المستعصية تنخرط بقوة أكبر لكسب عائلات هؤلاء الموقوفين التي تنتمي إلى مراكز الثقل الإسلامية السنية في طرابلس وعمار وصيدا وإقليم الخروب.
أما القوى المسيحية في السلطة فتسعى إلى استرداد الفارين إلى إسرائيل عملاً ببند في التفاهم بين التيار العوني و"حزب الله"، ولما لتنفيذ مثل هذه العودة من معانٍ على مستوى الرسائل الموجهة إلى إسرائيل وأميركا خصوصاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قسماً كبيراً من عناصر الميليشيا الذين فروا إلى إسرائيل كانوا من الشيعة والدروز، وقد عادت غالبية هؤلاء في السنوات السابقة ونالت عفواً بموجب "توبة" أبدتها، وبعضهم جرى دعمه ليتولى مناصب في السلطات المحلية الجنوبية، والبعض الآخر بات من وجهاء القوم، وهم اليوم يتصدرون عمليات قمع تحركات انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) اللبنانية.
لم يكن مجلس النواب اللبناني بحاجة إلى ارتكاب عفو من هذا النوع، يقضي على أمل اللبنانين بالمساواة أمام القانون ويطبخ بالقوانين نفسها. ويكفي أن يقوم القضاء المستقل بدوره ويدلي بأحكامه لتجد كل مشكلة حلاً. فالقانون ينصّ على كيفية محاسبة من يعمل في المخدرات، وهو يميّز بين مزارع وتاجر ومروّج ومرتكب للجرائم. كذلك في موضوع الموقوفين الإسلاميين، حيث يعاني عدد منهم من التوقيف من دون محاكمة، ومنهم من لم يرتكب جُرماً، ومنهم من قتل وفظّعَ... ولكل واحد من هؤلاء حُكْمهُ، وللقضاء الكلمة الفصل في موضوعه.
إن تفكيك القضايا وإطلاق يد القضاء المستقل البعيد عن تدخلات السياسيين من أصحاب النفوذ سيساعد من دون شك في استعادة ثقة اللبنانيين والمقيمين بالدولة. والمقصود بالتفكيك النظر بكل حالة في مفردها، فليس كل من عمل بـ"الحشيشة" مجرماً، وليس كل معتقل إسلامي قاتلاً، كما أن من فرَّ إلى إسرائيل يمكن أن يكون مواطناً خائفاً أو جلاداً تافهاً وعميلاً لجيش يحتل بلده.
كان الأجدى اتّباع طريق القانون الصعب هذا بدلاً عن استسهال صفقات البيع والشراء والإثارة الغرائزية، لكن القوى المتسلطة ما اعتادت تطبيق القانون، فهي داست الدستور في المفاصل والمحطات الحاسمة (وإرجاء الانتخابات النيابية والرئاسية في موعدها الدليل الأبرز)، وهي إذ تتناسى مئات المختفين قسراً في سوريا، لا تمانع في إصدار قانون تجنيس يجعل الآلاف من المحظيين مواطنين لبنانيين في صفقة تشبه كثيراً صفقة العفو المطروحة.
إنها سلطة التقاسم والتقسيم، فإذا كان مشروعها قوبل بعراقيل داخلية من هنا وهناك، فهو نجح في تحقيق ما تريده من تعميق للانقسام العامودي الطائفي والمذهبي، وهذا سلاحها الأبدي السرمدي دفاعاً عن بقائها، خصوصاً بعد انتفاضة 17 أكتوبر العابرة للمذاهب والطوائف وطرحها شعارات التغيير الجذري.