منذ اندلاع ثورات العالم العربي في نهاية 2010 أصبحنا على ثقة بأن منظومة الخيال التقليدي قد انهارت لتحل محلها منظومة جديدة في الرؤية والأدوات، وتحول أي تشبث بالقديم إلى شكل من أشكال مناهضة الثورة. كان الخيال الجديد يُعبر عن مستقبل قريب يسعى جيل بأكمله إلى تشييده، لكن خيبة الأمل كانت بالمرصاد. تحول عندها الخيال في كل أشكال الفن إلى وسيلة مقاومة لحاضر بائس ويائس، فوجهت السلطة جهودها لقمع هذا لخيال ووظفت كل الأشكال المتاحة لإسكات أي كلمة ولمحو أي لوحة ولوأد أي تجمع فني ثقافي قد يشكل مساحة لفكرة جديدة. وعندما اتجه الخيال إلى مواقع التواصل الاجتماعي معتمداً على موقعي "فيسبوك" و"يوتيوب" لم تتوان السلطة عن الملاحقة التي دائماً ما تثير الاستهجان الممتزج بالسخرية، حتى أن رئيس أكبر دولة في العالم أعلن قانوناً يتيح ملاحقة محتوى "فيسبوك".
من قلب هذا الحصار المحكم ظهر أدب اليوتوبيا ونهاية العالم (أبوكاليبس)، وهو نوع كانت بوادره قد ظهرت في كل أشكال السخرية المكتوبة والمصورة. لكن اللافت للنظر أن هذا النوع من الكتابة لم يكن يؤشر نحو المستقبل كنظيره في الأدب الغربي بل عمد إلى توظيف كل مكونات الحاضر في شكل كابوسي مثل رواية "عطارد" للمصري محمد ربيع و"فرانكشتاين في بغداد" للعراقي أحمد سعداوي. حتى المسلسل الرمضاني المصري "النهاية" والذي كتبه عمرو سمير عاطف انطلق من فكرة أزمة الطاقة التي يمر بها العالم ورسم قدساً جديدة دفعت المتحدث العسكري أفيخاي أدرعي إلى التعليق باستهجان على المسلسل. وكأن ما حدث على مدار العقد الماضي ونتائج الثورات كانت بمثابة ديستوبيا فقام الأدب بتصوير ما يحدث في إطار تخييلي مع الكثير من الإسقاطات والترميز والإشارات التي تقدم الواقع المعيش. وكأن الثورات المهزومة كانت أقوى من الخيال الذي لم يعد لديه ما يقدمه، لم يعد الخيال قادراً على التخيل، إذ شهد أسوأ خيالاته تتحقق على أرض الواقع. تحول الخيال إلى شاهد على ذاته.
عندما قدم ستيفن سودربرغ فيلم "العدوى" في عام 2011 لم يكن يعتقد أن الفيلم سيتحول إلى حقيقة، وذلك على الرغم من أن أرباح الفيلم تجاوزت 135 مليون دولار في حين كانت موازنة الفيلم 60 مليون دولار. وعلى كل المواقع السينمائية بلا استثناء تم تصنيف الفيلم كخيال علمي، لكن 2020 أخرجت الفيلم من التصنيف وجعلته يعكس واقعاً نعيشه. هناك نحو عشرين فيلماً تتعلق بالأمراض والأوبئة من إنتاج هوليوود تندرج تحت تصنيف الخيال العلمي، لكنها فقدت هذه السمة مع اندلاع فيروس كورونا. يواجه الخيال هزيمته الثانية لكن هذه المرة ليس عن طريق السلطات المباشرة بل عن طريق الطبيعة، الطبيعة أقوى من الخيال الإنساني وربما أكثر إبداعاً، وهو ما قد يُحزن أوسكار وايلد كثيراً الذي كان مؤمناً أن الواقع هو الذي يُقلد الفن (وبالتالي الخيال).
ما بعد كورونا
في هذه الهزائم المتتالية للخيال علينا أن نعيد التفكير في عدة قضايا (إلى أن تنجلي الجائحة). فبداية ينبغي على النقد الأدبي أن يراجع مقولاته المتعلقة بتعريف الأدب والفن. فدائماً ما كان المتخصص ينفي أن يكون الفن مرآة للواقع، فكان يقول إنه يسبق الواقع بخطوة أو أنه عالم مغاير أو أنه يكسر قواعد الواقع أو أنه يناهض الواقع. ولهذا كان مفهوما الخيال والتخييل يقدمان أكبر تحدٍ لغير المتخصص الذي يخلط مثلاً بين المؤلف والشخصية الرئيسية. أما القضية الأخرى فهي تتعلق بأدب اليوتوبيا، ما مصيره بعد كورونا وما هي الآفاق الجديدة التي يُمكنه أن يطرحها؟ هل سيكون قادراً على إعادة رسم العالم بالشكل الذي نعيشه الآن؟ كل خطوة خارج المنزل تحمل نتائج وخيمة أو سالمة، هو المجهول المطلق. هل سيتمكن الأدب من العودة إلى حياته الطبيعية بعد كورونا أم أنه سيخوض في الآثار النفسية الناتجة من عزلة كورونا؟ هل سنطالع ما يشبه "يوميات الكورونا" كما طالعنا من قبل يوميات الثورات؟ قد يخرج علينا النقد بمصطلح "أدب الكورونا" على شاكلة "أدب الثورات" و"أدب المقاومة" و"أدب المخيمات".
أما القضية الأخيرة فهي تتعلق بكيفية القراءة سواء النقدية أو الحرة. من الصعب أن نحافظ على منهج القراءة ما بعد البنيوي، فقد تقوقعنا في عزلة تُعيد للبنية القائمة بذاتها مجدها الغابر، لم يعد للمؤثرات الخارجية أي فعالية فالسياق معزول ومبتور من كل ما عداه، إلا إذا مات أحدهم جوعاً أو من الوباء. وهذه النقطة تثير العديد من الإشكاليات، فالقارئ المعزول بإرادته أو قسراً يتابع تأثير الجائحة على الظرف الاقتصادي والصحي (والسياسي في بعض الأماكن)، لكنه معزول تماماً بحيث أن هذه القرارات لن يكون لها الأثر الواضح إلا عندما يعاود الاشتباك مع الشارع وأشكال السلطة المؤسسية. ومن هنا قد يكون في حاجة إلى قراءة بنية النص كوحدة مستقلة تمده ببعض الثبات في فوضى نفسية وزمنية. على الجانب الآخر، تتسبب هذه التحولات الاقتصادية الكارثية في إعادة ترسيم العالم بما يجعل القارئ منغمساً فيها تماماً. على النقد إذن أن يخرج من عزلته ليدرك أن خياله بحاجة إلى انتفاضة من الركود. قد يكون النقد هو المعقل الأخير لمقاومة هزيمة الخيال أو قد يمنح الخيال روحاً جديدة وهو ما يمنحه المكان الذي كان يسعى إليه من قبل.