لا تكاد تُذكر معالم البصرة الشهيرة الواقعة جنوبي العراق إلا وتُذكر من ضمنها ساحة "أم البروم"، الواقعة في قلب المدينة. وأكثر من أي مكانٍ آخر، تأثرت الساحة بالأحداث المهمة والتحولات التي شهدتها البصرة على مدى عقودٍ من الزمن. وواقعها يختصر نبض الحياة العامة، إذ يخيّم عليها الاطمئنان والهدوء حين يعمّ الاستقرار، وتتحول إلى بؤرة توتر عندما تنشب حرائق سياسية أو تضطرب الأوضاع، وفي حاضرها تطغى على ملامحها الشاحبة تجاعيد الإهمال.
كانت "أم البروم"، الواقعة في منطقة العشار، مقبرة ممتدّة. ومع التوسّع العمراني قررت البلدية عام 1933 منع الدفن فيها، وتحويلها إلى حديقةٍ عامة. ويروي متصرّف (محافظ) البصرة خلال تلك الفترة، تحسين علي، في مذكراته أن "المقبرة كانت تسبب الرعب للأطفال والنساء الساكنين في بيوتٍ محيطة بها، فواجهت رجل دينٍ بارز، وأبلغته عدم إمكان بقائها مقبرة تتوّسط البيوت، فأجابني بأنها ليست خاصة بطائفةٍ معينة، وإنما للفقراء من أبناء الشيعة والسنة، فأمرت البلدية بالبحث عن بستانٍ مهجور ليكون مقبرةً بديلة، ثم طلبت من البلدية تسوية القبور وإقامة حديقة عامة". وفي غضون أعوام قليلة صارت الحديقة متنفساً فسيحاً مزداناً بأشجار السدر والبرهام والكالبتوس.
ومع التزاحم على الأراضي الشاغرة في مركز المدينة لم تصمد الحديقة، إذ قُضمت منها مساحة لإنشاء مديرية للبريد، وتم إشغال مساحة أخرى منها كمرأب لوسائل النقل الجماعي.
ومع إنشاء عدد من صالات السينما والمقاهي والحانات والمطاعم والفنادق في جوارها طغى الجانب الترفيهي والتجاري على الساحة، وانحسرت المساحات الخضراء تدريجياً، حتى غدت "أم البروم" ذكرى حديقة عامة.
اليوم، لم تعد الساحة تكتسب أهمية سياحية أو قيمة ترفيهية. فقد حلّت متاجر في أماكن الفنادق والحانات وصالات السينما، وينتشر حولها باعة متجولون. والمرأب الذي كان صغيراً صار محطة مركزية للنقل الداخلي.
وللشاعر بدر شاكر السياب قصيدة بعنوان "أم البروم"، يروي فيها بحزنٍ واستنكار كيف لفظ التوسع العمراني المقبرة. وهي ليست المقبرة الوحيدة التي طمسها الزحف العمراني، إنما واحدة من أصل 37 مقبرة في المدينة، أكثرها تلاشت خلال القرن الماضي تحت أسس المباني وإسفلت الشوارع.
مسميات سياسية طواها النسيان
عند احتلال القوات البريطانية البصرة خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914، أطلق اسم "فيكتوريا" على جزءٍ من الساحة تيمناً بالملكة ألكساندرا فيكتوريا (1868- 1935). وخلال الحكم الملكي قررت البلدية عام 1934 تسميتها حديقة الملك فيصل الأول تخليداً لذكراه كأول ملك للعراق. وبعد إسقاط النظام الملكي وإحلال النظام الجمهوري عام 1958 صارت الساحة تسمى حديقة "الشعب". إلا أن هذه المسميات ذات الأبعاد السياسية لم تتجاوز حدود الخرائط الإدارية والمخاطبات الرسمية. فالناس في البصرة لا يذكرون الساحة إلا باسمها القديم، "أم البروم".
وما من تفسيرٍ متفق عليه على هذه التسمية، فهناك من يعتقد أنه في عام 1875 حلت مجاعة ناجمة عن تفشي وباء الطاعون، وفي غضونها بادر محسنون بتقديم طعامٍ مجاني إلى حشود الجياع بعد طبخه في الساحة باستخدام قدورٍ كبيرة تدعى (بروم)، فصارت الساحة تعرف بـ"أم البروم". والمؤرخ المحلي حامد البازي (1920- 1995) يُرجّح هذه الرواية على روايةٍ ثانية تفيد بأنه كان يعمل في الساحة عمال يبرمون (يفتلون) حبال السفن، لكن الباحث اللغوي والتاريخي حامد الظالمي، قال لـ"اندبندنت عربية" إن "الساحة نالت اسمها في الأغلب من (البروم)، وهي أوعيةٌ كبيرة كانت توضع فيها جثث الموتى تمهيداً لنقلها نهرياً إلى النجف لدفنها هناك".
ميدان احتجاجات وإعدامات
لم يكن يوم 27 يناير (كانون الثاني) من عام 1969 يوماً اعتيادياً في البصرة، إذ تفاجأ البصريون بنصب مشانق في ساحة "أم البروم"، وفي الوقت نفسه في بغداد. وأُعدم أشخاص اتهموا بتأسيس شبكة تخريب وتجسس لمصلحة إسرائيل. وما زال الجدال حول إذا ما كانت التهمة ملفقة لغايات سياسية أم لا.
وخلال الاضطرابات التي شهدها العراق في 1941، حوّلت القوات البريطانية الساحة ثكنة مؤقتة لفرض السيطرة على منطقة العشار، وحصلت بالقرب من الساحة مناوشات أسفرت عن ضحايا.
وفي عام 1948 انطلقت تظاهرات شعبية عارمة في البصرة من الساحة احتجاجاً على معاهدة (بورتسموث) التي أبرمتها الحكومة العراقية مع نظيرتها البريطانية.
وما أن جاء عام 1953 حتى احتضنت الساحة تظاهرات طلابية وعمالية تأييداً لإضراب عمال النفط. وما زالت الساحة منطلقاً لتظاهرات ومسيرات احتجاجية. وخلال النصف الأول من العام الحالي انطلقت منها سلسلة تظاهرات ومسيرات.
ساحة للمقهورين والفقراء
على مرّ مراحلها لم تفارق مظاهر البؤس والشقاء "أم البروم" إلا نادراً، فهي على الدوام ملاذ للفقراء والمهمشين والمشردين والمقهورين والغرباء المفلسين. والفنادق القديمة المجاورة لها لا تخلو من متسولين وافدين من محافظات أخرى. وعند اجتياح تنظيم "داعش" بعض المحافظات قبل أعوام اكتظت هذه الفنادق بعوائل عراقية نازحة. وقبل ذلك نزلت فيها عوائل سورية هاربة من جحيم الإرهاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن ملاحظة حالة الشقاء بوضوح في الساحة عند النظر إلى (المَسطر) الذي يتجمهر فيه تحت أشعة الشمس عمال بأجرٍ يومي في انتظار من يستعين بخدماتهم. وعلى مقربة منهم ينتصب منذ عام 1970 تمثال (العامل) الذي يرمز إلى الطبقة العاملة. وكان آلاف الجنود خلال التسعينيات والثمانينيات يذهبون إلى الجبهات ومعسكرات التدريب مروراً بـ"أم البروم"، حيث المقاهي الشعبية والطعام الزهيد والسلع الرخيصة.
دراسة لتأهيل وتطوير الساحة
يأمل البصريون إعمار ساحتهم العريقة لانتشالها من واقعها، ونفض غبار الإهمال عنها. وبهذا الصدد يقول المدير السابق لهيئة الآثار والتراث في البصرة، قحطان العبيد، لـ"اندبندنت عربية"، إن "دراسة جديدة معززة بمخططات وخرائط تم اقتراحها على الحكومة المحلية لتحويل أم البروم إلى ساحةٍ مركزية عامة تضم حدائق ومجمعاتٍ تجارية لتكون معلماً سياحياً وواجهة حضارية تليق بالبصرة"، موضحاً أن "المشروع يتطلب تغيير موقع مديرية الاتصالات والبريد، ونقل المرأب المركزي إلى مكان آخر".
ويلفت العبيد إلى أن "التقديرات الأولية تفيد بأن المشروع يكلف تنفيذه 20 مليون دولار، ومعظم التكاليف ستكون تعويضات لاستملاك بعض المباني ذات الملكية الخاصة"، مضيفاً أن "الساحة بحُلّتها التي يصورها المشروع ترسم هوية المدينة في ضوء المزج بين رونق الحداثة وأصالة التراث".
من السابق لأوانه أن يتخيل البصريون ساحتهم العريقة في المستقبل القريب بمظهر على غرار ساحة القلعة في أربيل، ففي البصرة كثير من المشاريع المؤجلة والمتلكئة، والمقترحات العمرانية المنسية في الأدراج. والضائقة المالية التي يواجهها العراق جعلت يد الحكومة شبه مغلولة أمام تنفيذ مشاريع جديدة.