يزعم تاريخ العبريين، كما يُروى في "العهد القديم، سفر الخروج" أن إلههم يهوى قد ابتلى المصريين بـ 10 مصائب عامة عقاباً لهم على الاضطهاد الذي الحقوه باليهود في تلك الأزمنة السحيقة، ونعرف أن حكاية المصائب هذه كثيراً ما فتنت الكتاب والفنانين على مرّ العصور فتحوّلت على أيديهم، وفي مخيّلاتهم، إلى أعمال إبداعية يعتبر بعضها أمثولات أخلاقية والبعض الآخر محاولات للاستحواذ على التاريخ وإلى ما هنالك، وكان الرسام الإنكليزي ويليام تورنر واحداً من الذين افتُتنوا بتلك الحكاية ما جعله يكرّس لها بشكل خاص لوحتين ضخمتين من بين أعمال مرحلة ما قبل نضوجه القصوى، أي المرحلة التي وقع خلالها تحت تأثير الرسم الإيطالي والكلاسيكي متضافراً مع تأثيرات الفرنسيين بوسّان ولورين في مجال رسم لوحات تاريخية استعراضية.
ولسوف يقول الناقد الإنكليزي جون راسكين الذي كان له بالغ الأثر على الحياة الفنية في بريطانيا في القرن الـ 19 وكان من أوائل الذين قدّموا تورنر الى المجتمع الفني اللندني ودعموه، أن هذا الأخير لم يهتم بالمشهدين اللذين رسمهما من مشاهد "المصائب المصرية" من منطلق ديني ولا حتى من منطلق تاريخي وإنما من منطلق بصري إذ اكتشف ذات لحظة الغنى الماثل في المزج بين الطبيعة وتحولاتها والمخيال المصري والبعد الفجائعي للمشهد الذي يمكنه رسمه.
مصيبتان مصريتان
اللوحتان اللتان نتحدث عنهما هنا هما "مصيبة مصر الخامسة" التي رسمها تورنر في عام 1800، و"مصيبة مصر العاشرة" التي رسمها بعد الأولى بعامين، وكانت تفوقها حجماً إذ يبلغ عرضها حوالى 238 سنتيمتراً في وقت يبلغ ارتفاعها 146 سنتيمتراً، وهذه اللوحة الأخيرة التي نتوقف عندها هنا باعتبارها واحدة من أضخم وأقوى لوحات تورنر، تعتبر اليوم من جواهر متحف تيت اللندني.
وتروي سيرة تورنر التي رأينا صورة رائعة للمرحلة الأخيرة منها قبل سنوات في الفيلم البديع الذي حققه مايك لي بعنوان "مستر تورنر"، أن الرسام كان يودّ أول الأمر أن يكتفي برسم "المصيبة الخامسة" فرسمها وعُرضت ليُغرم بها الشاعر والكاتب وجامع اللوحات ويليام بيكفورد ويشتريها على الفور، كاتباً عنها صفحات فلسفية بديعة انتشرت بسرعة في الأوساط الأدبية. ولقد شجّع هذا الرسام على إنجاز تلك اللوحة الثانية التي نحن في صددها هنا، لكنها مع أنها جاءت أروع من الأولى وأعمق، لم تجد من يشتريها في وقت كان الرسام يحتاج إلى أي قرش للإنفاق على أسرته المهجورة وعشيقاته وسفره ومشروبه ومجونه، لذلك ظلت سنوات طويلة قابعة في محترف الرسام الذي، في جردة لممتلكاته أجراها في عام 1810 ثمّنها بألف جنيه لكنه، حتى بهذا السعر البخس، لم يجد شارياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكاية الحكاية
ومع هذا ما لبثت "مصيبة مصر العاشرة" أن أضحت واحدة من أثمن لوحات الفن البريطاني في القرن الـ 19، كما راحت الدراسات عنها تتكاثر بمقدار ما كانت تتفاقم شهرة تورنر خلال العقود التالية، ولا ننسى هنا أنها كانت واحدة من أبكر لوحاته هو الذي كان حين أنجزها لا يتجاوز الـ 27 من عمره، ولم يكن قد أصبح بعد المؤسس المعترف به للتعبيرية الإنكليزية والمعلم الذي يعترف به الفرنسيون الانطباعيون بكونه واحداً من روّاد مدرستهم الأجانب.
ولسوف يروي تورنر لاحقاً كيف أن سطور العهد القديم التي تروي كيف أن يهوى، وفي منتصف الليل وعتمته "نشر إرادته بأن يُضرب كل المواليد الجدد في بلاد مصر من الوليد الذي أنجبه الفرعون الجالس على العرش إلى مواليد النساء جميعاً بمن فيهم المولودون في السجون ومواليد الحيوانات. وهكذا استيقظ الفرعون ليلاً على هول الكارثة واستيقظ معه خدمه جميعاً وبقية المصريين على صراخ ونحيب، إذ لم يفلت بيت في طول مصر وعرضها من موت لوليد في ما كانت الرياح تضرب صاخبة مزمجرة والأرض تتقلّب".
والحال أن هذه الصورة القلمية هي ما حاول تورنر ترجمته إلى خطوط وألوان سيقول النقاد إنه تفوق فيها على نفسه وعلى تلك اللوحة "المصرية" الأخرى التي كان رسمها قبل سنتين، وتقول سيرة تورنر إنه خلال الفترة التي مرت بين اللوحتين، انكبّ على دراسة العديد من أعمال للرسام الفرنسي بوسّان معلقة في "بريدجواتر هاوس"، وهي أعمال أثرت فيه كثيراً لناحية توزيعه المشهد التاريخي بشكل جبهوي ما يضعنا أمام لوحة تكاد تكون مسرحية.
على الطريقة الإيطالية
وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا أن تورنر في عمله على هذه اللوحة، كما في عمله على العديد من لوحاته التاريخية التي أنجزها خلال تلك المرحلة المبكرة من حياته، اشتغل، وعلى عكس ما يرينا فيلم "مستر تورنر"، على طريقة المعلمين الإيطاليين الكلاسيكيين، أي محاطاً بتلامذة ومريدين كانوا يهيئون له اللوحة بل حتى يعملوا على تلوين خلفياتها، تاركين له هو أن يضيف مسحات من هنا وهناك.
ومن المعروف، وهذا يمكن أن نراه في الفيلم على أية حال، بل في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، أن تورنر لم يكن يتوقف عن الاشتغال على اللوحة حتى حين تكون قد عرضت أمام الجمهور، وهذا ما حدث أيضاً مع "المصيبة العاشرة"، علماً أن الرسام جوزف فارنغتون الذي كان صديقاً لتورنر إلى درجة كان يُسمح له معها أن يزور المحترف في أي ساعة يشاء ما أتاح له أن يرى بأم عينيه "مساعداً إيطاليّاً لتورنر منهمكاً في رسم الخلفية المعقدة لتلك اللوحة بالذات قبل أن يتدخل تورنر ويشتغل على غيومها الكثيفة.
ولعل اللافت حقاً في هذه الحكاية، التي يرويها جون واكر أحد كبار اختصاصي فنّ تورنر المعاصرين لنا، أن رساماً يُفترض أنه منافس لتورنر يبدو هنا مبهوراً بتقنيات هذا الأخير وأسلوبه في الرسم وعلاقته "الإيطالية" مع تلامذته، وعبّر عن ذلك من دون مواربة وبكل تواضع، خصوصاً أن تورنر كان في ذلك الحين في الـ27، أي أصغر شخص انتخب عضواً في الأكاديمية الملكية.
حياة موزعة بين إنكلترا وأوروبا
وُلد ويليام تورنر في عام 1775 ليرحل بعد ذلك بـ 76 سنة عام 1851، وهو عمل من دون توقف طوال أكثر من 60 سنة بين عام 1787 الذي حقق فيه رسومه الأولى، وعام رحيله حيث عُثر في جردة إرثه على حوالى 19 ألف رسمة ومخطط ولوحة، ولعل أبرز ما لاحظه الدارسون بصدد فنه، هو ذلك التطور الهائل الذي حدث لديه بين بداياته ونتاجات سنواته الأخيرة.
وهو تطور عزاه الباحثون، وعلى رأسهم راسكين، إلى كونه واحداً من أكثر الرسامين في تاريخ الفن الإنكليزي التفاتاً إلى خارج حدود الجزر البريطانية، فهو نهل من العديد من الفنون والأساليب الأوروبية وتأثر بالكلاسيكيات الإيطالية، ومن المعروف أنه زار إيطاليا مرات عدة وأقام فيها ردحاً مطّلعاً، خصوصاً على نتاجات عصر النهضة والفن التاريخي الإيطالي وتتابعه على يد الفرنسيين لورين وبوسّان كما أشرنا في سطور سابقة.
ولقد رسم تورنر أولى لوحاته الزيتية بدءاً من عام 1796 بعد جولة قام بها في مناطق ويلز، وبعد ذلك، درس لوحات الأقدمين ثم تجول في اسكوتلندا ليعود إلى لندن وقد باتت له مكانة في الأكاديمية الملكية وكتابات في نظريات الرسم والتلوين، وهو سيمضي العقدين التاليين في تحقيق عدد كبير من لوحات أضفت عليه شهرة ومكانة ومكّنته من الحصول، وإن متأخراً على أموال ساعدته على التجوال في أوروبا، لا سيما في إيطاليا، متنقلاً بين مدنها ثم بين المدن الفرنسية ليعود إلى انكلترا وهو في قمة نضوجه ما مكّنه من افتتاح غاليري ومحترف في بيتورث التي أضحت مكان إقامته وعمله لا يبرحها إلا لجولات في إيطاليا وألمانيا وفرنسا جعلت منه أوروبياً بامتياز.
وتُوّج عمل تورنر بمعرض كبير أقيم له في الأكاديمية الملكية قبل عام واحد من رحيله عام 1851 في منزله الفسيح في شيلسي، وأقيمت له جنازة ضخمة ندر أن حظي بمثلها رسام إنكليزي آخر.