الأصل في الأيديولوجية أنها رؤية شاملة تحوي مجموعة أفكار تجمع بينها نسب ثابتة، وتعطي في مجملها مفهوماً متكاملاً. والأيديولوجية أنواع منها ما هو ديني، ومنها ما هو قومي، ومنها ما هو فكري له أبعاد سياسية متميزة أو أطر ثقافية مستقلة. وسوف نكتشف أن أقوى الأيديولوجيات وأكثرها جاذبية هي الأيديولوجية ذات الطابع الديني، لأنها تسري بين الجماهير سريان النار في الهشيم، وتجد تأثيرها سريعاً في التجمعات البشرية، لأنها تقوم على مفهوم الإيمان، ولعل أبرز مظاهر الأيديولوجية الدينية هي تلك التي أطلقنا عليها في العقود الأخيرة تعبير "الإسلام السياسي"، الذي جاء ميلاده الحقيقي على يد حسن البنا في مدينة الإسماعيلية بمصر عام 1928، وانتشرت هذه الدعوة لا في مصر وحدها، لكن بين المسلمين في أنحاء الأرض، واكتسبت اتساعاً وقوة على مر السنين، بل وامتدّ أمرها حاليّاً لتصبح هاجساً يؤرّق الغرب، وربما مناطق أخرى في الشرق أيضاً تحت مسمى "إسلامو فوبيا" الذي يرفع شعار الخطر الأخضر بديلاً للخطر الأحمر، الذي كانت تمثله الأيديولوجية الماركسية لأكثر من قرن كامل من الزمان، التي نجم عنها هي الأخرى تطبيقات سياسية امتدت إلى شرق أوروبا، ودخلت القارات الآسيوية والأفريقية واللاتينية، بل وبلغت نقطة التماس مع الولايات المتحدة الأميركية بالتغلغل في دولة "كوبا"، والسيطرة على العقلية الحاكمة في عهد "كاسترو" وخلفائه، فإذا ما عرجنا إلى الأيديولوجية المرتبطة بالقومية، فنماذجها كثيرة، وأنا أظن أن النازية في ألمانيا هي نموذج للاشتعال القومي بدعاوي شيفونية عنصرية متعصبة.
وهكذا نجد أن التفريعات في مفهوم الأيديولوجية هي أمر لا ينتهي، وأنها امتداد للفكر البشري ونتاج له، ولقد عرفنا الصدام الأيديولوجي في حالات كثيرة، وأنا أتذكّر الآن ما جرى على الساحة الدولية من خلاف حاد بين الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي، إذ كان الصدام في ظاهره عقائدياً، لكنه كان في باطنه قومياً بامتياز! ولماذا نذهب بعيداً فإن ما جرى في منطقتنا العربية كان هو الآخر نتاج لصدام مكتوم بين مشروعين كبيرين، أحدهما ديني والآخر قومي.
إنه ذلك الاختلاف بين المشروع الإسلامي والمشروع العربي، وبانحسار موجة المد الناصري في المنطقة خفتت نغمة القومية، وانطلق المشروع الإسلامي في سرعة وقوة حتى اجتاح كثيراً من الدول العربية، وبلغ ذروته قبيل أحداث الربيع العربي وأثناءها وبعدها، إذ لعبت جماعة الإخوان المسلمين دوراً بارزاً في هذا الشأن، وما زالت تمارس دوراً ملموساً في ليبيا واليمن وبقاع أخرى في العالمين العربي والإسلامي، ولعلنا نطرح هنا بعض الإشكاليات المتصلة بهذا الأمر التي تؤدي إلى التباس العلاقة بين الأيديولوجية الإسلامية والفكر السياسي الغربي عموماً:
أولاً: لقد تعددت الرؤى وزوايا النظر تجاه الإسلام السياسي، وقد رآه الغرب في البداية حليفاً ضمن حزام يطوق العالم الشيوعي، لكن بسقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق وانفراط عقد النظم الاشتراكية ذات الطابع الماركسي بدأ الأمر يختلف.
وتتجه النظرة إلى العالم الإسلامي مشوبة بالقلق والثقة المفقودة والإحساس بالعداء التاريخي الكامن، حتى احتدم الصدام بين الجاليات الإسلامية والدول التي تعيش فيها في أوروبا وغيرها من الدول التي يمثل فيها المسلمون أقلية عددية.
ثانياً: أطلّ الإرهاب بوجهه الكئيب على العالم المعاصر ملتحفاً بعباءة الإسلام مختفياً تحت عمامته والإسلام من تلك الممارسات براء بالكامل، لأنه دين يقوم على التسامح، ويُعلي قيمة العقل، ويجعل من التفكير فريضة إسلامية، ولقد شوّه الإرهاب صورة الإسلام والمسلمين، وسبب أضراراً كبيرة للعالمين العربي والإسلامي، ولا نستطيع أن نصف الإرهاب بأنه نتاج لأيديولوجية معينة، لكنه تجمّع للخوارج عن الإسلام والمأزومين من ديانات أخرى في تشكيلة معقدة تهوى الدمار، وتسعى للخراب وتتعطش للدماء.
ولقد عانى المسلمون أكثر من غيرهم من هذا الوباء، ودفعوا ثمناً غالياً مرتين، الأولى بجرائم الإرهاب ضد المسلمين أنفسهم، والثانية بتشويه صورة المسلمين نتيجة الربط المصطنع بين الإسلام وتلك الجماعات الضالة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً: إن مسألة "الحجاب" ورغم أنها تتعلق بالحرية الشخصية فإنها اشتبكت في ذهن غير المسلمين بأنها تعبير عن الزي الإسلامي، وإذا كنا نرفض "النقاب" جملة وتفصيلاً بسبب مخاطره الأمنية فإننا نرى أن الحجاب قرار شخصي، فاليهود يلبسون القبعة، والمسيحيون يتحلون بالصليب، ومن حق المسلمة أن تلبس الرداء الذي تراه، إلا أن دوائر غربية وبعضها رسمية مع الأسف استهدفت التجمعات الإسلامية بشكل غير مسبوق، فقد ظهر الحجاب الإسلامي بعدة أشكال مختلفة وجديدة تخص رداءً تتخذه الإناث المسلمات، وظلّ بذلك متداولاً على نطاق محدود في إطار تقليدي، لكنه ما لبث بين عشية وضحاها أن يصبح الرمز الذي يمكن اعتباره قاطعاً وعنيفاً في الذاكرة الغربية، ونالت فرنسا بوجه خاص النصيب الأوفر في هذا السياق، إذ لم يقتصر الأمر على إثارته بردود فعل بالغة الحدة، بل تجاوزه إلى احتلال الصدارة بإذكاء مناقشات مثيرة غلبها الانفعال، وقد بدأت بشكل ملموس عام 1990، وقد انطلقت المناقشات والمناظرات ذات الصلة بحجاب المرأة ودورها في المجتمع منذ عشرات السنين عندما كان الحجاب ذا طابع اجتماعي أكثر منه ديني، بل إن بعض المسيحيات في الدول الإسلامية كن يرتدين الحجاب الخفيف تعبيراً عن ظاهرة اجتماعية عامة لا تخص المسلمات وحدهن، ولقد عشت في الهند سنوات، ولم يزعجني أبداً أن يرتدي أبناء طائفة "السيخ" العمامة التقليدية الخاصة بهم، ورأيت الهنود يتعايشون معها بسماحة ورضا رغم أن نسبة "السيخ" لا تزيد على ثلاثة في المئة من عدد سكان الهند يرتكزون في الشمال الغربي للبلاد.
رابعاً: إنّ الخلافة الإسلامية، خصوصاً في قرونها الأخيرة، لم تكن دليلاً على وجود مركزية فعلية، لكنها كانت فقط رمزية مثالية، لا تقدّم نظام الحكم العادل أو الرشيد، ولعل المحاولات المستميتة التي يسعى وراءها حالياً رجب طيب أردوغان إنما تصدر عن خلفية تاريخية تصوّر له أن الخلافة الإسلامية الأخيرة حق تركي تستطيع استعادته من جديد، والأمر هنا يبدو بعيد المنال، لأن الدنيا تغيّرت والعالم تحوّل، فلسنا في عصر حصار فيينا عام 1683، عندما وقفت القوات العثمانية على أسوارها عدة شهور، فدروس التاريخ تنكأ جراحاً قديمة بدءاً من الحرب الصليبية وصولاً إلى الطرد من الأندلس، مروراً بأحداث جسام في التاريخ الإسلامي الحافل.
خامساً: دعنا نعترف أن عصر الأيديولوجيات يعطينا ظهره، وأن المصالح البراغماتية لها الأولوية على غيرها، ولم يعد التفكير مقصوراً على الإيمان بالعقائد أو الاستسلام لروح الأديان، إذ إن التطوّر التكنولوجي حسم جزءاً كبيراً من الخلافات القديمة، وأدّى إلى تجسير الفجوة بين الحضارات والثقافات بل والأيديولوجيات أيضاً.
ولعلنا نشهد حاليّاً بوادر حرب باردة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، ليست عقيدتها أيديولوجية، لكنها تمثل صراعاً اقتصادياً وتنافساً حاداً في الإنتاج والتصدير وفتح الأسواق، فضلاً عن المضاربات النقدية التي تحدد أسعار العملات وفقاً للصعود والهبوط في أسعار السلع الاستراتيجية، مثل الذهب والبترول وبعض السلع الغذائية المؤثرة، وفي مقدمتها القمح، فضلاً عن تجارة السلاح والدواء والصناعات الإلكترونية.
هذا طواف موجز للتحريض على التفكير في قضايا الأيديولوجية، وما ينجم عنها من صراع، وما تؤدي إليه من مواجهات، لعلنا ندرك في النهاية أننا أمام عصر التكنولوجيا والبحث العلمي، وليس عصر الأيديولوجية والالتزام العقيدي.