لا توازن في العلاقات الخارجية من دون توازن في العلاقات الداخلية، هذا هو قدر البلدان التي تفرض عليها الجغرافيا وتركيبة المجتمع أن توفق بين المطلوب منها وما تطلبه لنفسها، وهذا هو التحدي أمام رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في المفاوضات مع أميركا، والحوار مع إيران، والانفتاح على المحيط العربي، والالتفات إلى المواقف المختلفة في الداخل، فلا أحد، كما قال الجنرال ديغول "يذهب إلى المفاوضات من أجل التوصل إلى خلاصة بل من أجل الحصول على شيء"، وليس ما يبدو نجاحاً في الفصل الافتتاحي للمفاوضات الإستراتيجية بين العراق وأميركا سوى بداية في مسار محكوم بتعدّد اللاعبين والحسابات فيه، ففي أميركا أكثر من صوت، وإن كان المفاوض واحداً، حسابات المنظومات الأمنية تختلف عن اهتمامات وزارة الخارجية والبيت الأبيض، ومقابل من يدعو إلى الانسحاب الكامل من كل الشرق الأوسط والاكتفاء بما يسميها البروفسوران جون ميرشيمر وستيفن والت "إستراتيجية أوف شور"، هناك من يرى أن على واشنطن الانخراط أكثر من الشرق الأوسط واستثمار "الرأسمال" الذي وظفته في العراق بالمال والدم في المواجهة مع إيران.
الانسحاب الأميركي الكامل
وفي العراق يطالب المكوّن الشيعي بالانسحاب الأميركي الكامل، في حين يرى المكوّن السنيّ والمكوّن الكرديّ ضرورة البقاء الأميركي في إطار اتفاق إستراتيجي للتوازن مع إيران وإكمال الحرب مع "داعش" وحماية أجواء العراق إلى أن يصبح له سلاح جويّ قوي.
أما إيران، فإنها تعتبر العراق "مهماً جداً لأمنها، لأنها تعرف أن ما يحدث في العراق لن يبقى فيه"، كما يقول أريان طباطبائي من "صندوق مارشال الألماني"، وهي تربط نجاح مشروعها الإقليمي بإخراج القوات الأميركية "من غرب آسيا"، فضلاً عن أنها متغلغلة في النسيج الاجتماعي العراقي ولديها ميليشيات تابعة لولاية الفقيه ومرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عام 2008 جرى توقيع اتفاق "الإطار الإستراتيجي" بين أميركا والعراق، لكن التردد بضغط إيراني في تقديم الضمانات الرسمية والقانونية التي طلبتها الإدارة الأميركية، قاد إلى قرار الانسحاب الكامل بعد النجاح في محاربة "القاعدة" على يدّ "الصحوات" العراقية والقوات الأميركية، وكثيرون في أميركا والعراق يقولون إن الانسحاب الكامل كان غلطة أميركية وعراقية قادت إلى ظهور "داعش".
الخط الأحمر
وبعد سنوات طلبت بغداد مساعدة أميركية لمواجهة "داعش"، فكان التحالف الدولي الذي لعب دوراً مهماً في هزيمة "الخلافة الداعشية" جغرافياً، والساعة دقت لتنظيم الانسحاب والاتفاق على ما يحتاج العراق إلى بقائه "من دون قواعد دائمة" بحسب التعهد الأميركي، فضلاً عن أن التفاوض الإستراتيجي ليس فقط على الأمن والعسكر بل أيضاً على مسائل المال والتعليم العالي والصحة والتدريب.
الخط الأحمر الذي بدأ منه الكاظمي هو "السيادة والمصلحة الوطنية"، وما يحرص عليه هو قيام علاقات متوازنة مع أميركا وإيران والسعودية، وليس ذلك سهلاً، فالصراع بين إدارة الرئيس دونالد ترمب وطهران هو في مرحلة "الضغط الأقصى": واشنطن تريد إنهاء النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وطهران تريد إنهاء الوجود الأميركي في المنطقة، و"التساكن" بينهما مرحلي وتكتيكي ومرتبط بحاجات مؤقتة، والخلافات داخل العراق عميقة، ولم يكن التسليم بحكومة الكاظمي بالخيار بل بالاضطرار.
عام 1921 قال الملك فيصل الأول الذي نصّبه البريطانيون في العراق بعدما أسقط الفرنسيون مملكته في سوريا "في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية ومتشبعة بتقاليد وغيبيات دينية"، اليوم تبدو الوطنية العراقية قوية عند الجميع، بصرف النظر عن الخلافات السياسية، وليس الحراك الشعبي في بغداد والنجف وكربلاء والناصرية والذي بدأ في الخريف الماضي سوى أقوى تعبير عن الوطنية العراقية.
والسؤال هو: إلى أي حدّ يستطيع مصطفى الكاظمي الرهان على الوطنية العراقية لترتيب التوازن في العلاقات الداخلية من أجل التوازن في العلاقات الخارجية؟ والمسألة هي: أن تبني دولة أرقى من الطوائف أو أن لّا تكون السلطة سوى حصص طائفية؟