لا تختلف كثيراً الصورة النمطية التي يرسمها الروائي والقاصّ اليمني وجدي الأهدل للديكتاتور، في مجموعته القصصية الجديدة "التعبئة" ( دار نوفل - أنطوان)، من قصّة إلى أخرى. فبين الأربعة عشر ديكتاتوراً أجنبياً الذين تتناولهم المجموعة الكثير من المشترَكات التي تُظهِّر هذه الصورة، وبينهم القليل من المختلِفات التي تُميّز بين ديكتاتور وآخر.
أمّا المشترَكات التي تُشكّل هذه الصورة، فتكمن في أنّ الديكتاتور هو، غالباً، متحدّرٌ من خلفية عسكرية، مصابٌ بجنون العظمة، مسكونٌ بالارتياب، خائفٌ على كرسيّه، مبذّرٌ لأموال الدولة على رغباته، قلقٌ من المستقبل، يحيط نفسه ببطانة فاسدة، تحفّ به مجموعة من المساعدين المنافقين الذين يزيّنون له الباطل ويخشونه في الوقت نفسه، يعتمد على أجهزة الإستخبارات، يتّخذ من العرّافين والسحرة مستشارين له، يكره المثقّفين وينكّل بهم، يربط بين القوّة والفحولة الجنسية، لا يتورّع عن القتل الفردي والجماعي، يعيش رهاب المعارضة والانقلاب عليه، وغالباُ ما يلقى مصيراً قاتماً يجني فيه ما زرعت يداه، فالله يُمهل ولا يُهمل، وكذلك الشعب. وأمّا المختلِفات فهي ما سنتناوله في هذه العجالة.
في العنوان، "التعبئة"، في اللغة، هي مصدر من الفعل "عبَّأ". ومعناها "أن تُعَبَّأ للحرب جميع قوى الدولة من رجالٍ وعتاد". وفي المتن، ترد الكلمة في قصّتين اثنتين، على الأقلّ، ففي القصّة السابعة، يحذّر العرّاف الديكتاتور الروماني تشاوشيسكو بالقول: "تعبئة... تعبئة تحصل ضدّك... سيّدي الرئيس" (ص 64). وفي القصّة العاشرة، يوهم الديكتاتور الأوغندي عيدي أمين قادته العسكريين بوجود خطر يتهدّد نظام الحكم بالقول: "لقد عرفت من مصادري السرّية الخاصّة أنّ هناك تعبئة تجري ضدّي لقلب نظام الحكم" (ص 96). وهكذا، يختلف معنى المفردة بين العنوان والمتن، أو بين المعجم والاستعمال، فبينما تستهدف، بالمعنى الأوّل، عدواًّ خارجياًّ يتهدّد الدولة، نراها تستهدف، بالمعنى الثاني، الديكتاتور حاكم الدولة. وبذلك، ينزاح المعنى المستعمَل عن المعنى المعجمي.
وقائع تاريخية
في المتن، تنطلق القصّة الواحدة من واقعة تاريخية تتمثّل في الوجود التاريخي والخطوط العريضة للشخصية. غير أنّ الوقائع الأخرى المتعلّقة بالتفاصيل التي ينسبها القاصّ لها هي وقائع متخيّلة، يرشّ فيها الكثير من البهار على الواقعة التاريخية، ويخرج بها من الحيّز التاريخي الواقعي إلى الحيّز القصصي الفني المتخيّل. ويستخدم في هذه العملية تقنيات المبالغة والتحوير والتشويه والغرابة والسخرية والكاريكاتور وغيرها، فينتقم بالمخيّلة من الواقع، وبالقصّ من التأريخ. وينتصر للضحايا، ولو بعد حين، وهو ما يتمظهر في القصص المختلفة.
في القصّة الأولى المتمحورة حول الديكتاتور الألماني أدولف هتلر، يرصد القاصّ هتلر في الجنّة، في فضاء غرائبي. ونراه يمارس جبروته، وعنجهيّته، وعنصريّته، وصَلَفه، وارتيابه، وادّعاءه تصحيح أخطاء الطبيعة، وانتحاره. أي أنّه يكرّر في الجنة الخطايا نفسها التي ارتكبها في الدنيا، ولم يكن موته منتحراً وانتقاله إلى العالم الأخروي ليغيّر شيئاً من سلوكه في العالم الدنيوي. وبذلك، تقول القصّة أن الطبع أقوى من التطبّع، وأنّه يرافق صاحبه إلى العالم الآخر. ولا تبتعد القصة الثانية التي تتمحور حول الديكتاتور الروسي ستالين عن هذه الأجواء الغرائبية التي تُعرّي الديكتاتور، وتُجرّده من عناصر قوّته؛ فنراه: ضعيفاً تُقلقه نبوءة عرّافة، وخليعاً يُعلّم في مدرسة، وفنّاناً تشكيلياًّ يقدّم لوحة إلى الأكاديمية، ومُحاوراً لشكسبير الذي يلتقي به في الجنّة، ومُحتجاًّ على مكافأة الأغنياء دون العمّال، ومتمرّداًّ على أمر الرفيق الأعلى برفضه السّجود لشكسبير، ومقبوضاً عليه ليُرسَل إلى الجحيم. وهكذا، تأتي الوقائع المتخيّلة لتُحرّر الشخصية من تاريخيتها، وتدخلها في فضاء غرائبي، فانتازي، يذكّرنا بفضاءات "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، الأمر الذي ينطبق على القصّة الأولى أيضاً.
إذا كان الديكتاتور في القصّة الأولى يدّعي أنّ ما يقوم به هو تصحيح لأخطاء الطبيعة، فإن هذه الأخيرة هي التي تقوم بتصحيح أخطائه في القصّة الثالثة. ذلك أنّ الديكتاتور الاسباني فرنكو الذي يدفعه غروره إلى رفض أن يمتلك أحدٌ في شعبه ما لا يمتلكه هو ويأمر بمعاقبته، يدفع غالياً ثمن هذا الغرور. فحين يعجز عن مهاتفة الرب كما يفعل خوان كاليخونتي، الشاب الرقيق، الخيّر، يأمر بمحاكمته وإعدامه، حتى ما تزامن تنفيذ الحكم مع افتتاحه برج الاتصالات الذي بناه، تثور الطبيعة، ويبتلع نهر مانثاناريس البرج، ويتحوّل فرنكو وضبّاطه إلى جثثٍ هامدة. وبذلك، تنتقم الطبيعة من الديكتاتور.
تحكيم الغيبيات
ولئن كانت الديكتاتورية تعكس، في جانب منها، غياب العقل السياسي، في ممارسة السلطة، فإنّ اعتمادها على الغيبيات في اتخاذ القرار هو الجانب الآخر من هذه الممارسة. لذلك، كثيراً ما يلجأ الديكتاتور إلى ممثّلي السلطة الغيبية لتفسير الحاضر واستطلاع المستقبل، ويتّخذ قرارته في ضوء تُرّهاتهم، وكثيراً ما تترتّب على هذا اللجوء عواقب وخيمة. وعليه، تزخر المجموعة بشخوص من قبيل: الساحرة، العرّاف، مفسّر الأحلام، قارئ الكف، قارئ الفنجان، ضاربة الودع، وسواهم من ممثّلي السلطة الغيبية الذين يتفاوت تأثيرهم من قصّة إلى أخرى. ففي القصة الرابعة التي تتمحور حول الديكتاتور الأفريقي بوكاسا، يؤدي إصغاؤه إلى الساحرة الرهيبة دغونغي التي تتنبّأ له بأن يصبح أمبراطوراً إلى تبديد أموال الخزينة وإفلاس الدولة. وفي القصّة الخامسة التي تتمحور حول الديكتاتور التشيلي بينوشيه، يؤدّي التنبؤ الذي يطلقه قارئ الفنجان فيكتور بأن نهايته ستكون على أيدي رجال طويلي البلابل إلى إصدار قانون يحدّد الطول الأقصى للبلبل، ويقضي بإعدام من يتجاوزه بتهمة الخيانة العظمى، فيتم إعدام الآلاف من ذوي البلابل الطويلة. بينما نرى الديكتاتور الأندونيسي سوهارتو، في القصّة السادسة، يستغل تنبؤ الساحر المتعلّق بالصحافي الفرنسي جان للقضاء عليه، فيغرق مع صحبه في البحر. وفي السياق نفسه، يقوم الديكتاتور الروماني تشاوشيسكو، في القصّة السابعة، بتسميم العرّاف إدمريسكو الذي تنبّأ بحصول تعبئة ضدّه، فيعاقبه الأخير بأن يتنبّأ له بنهايته في الربيع، الأمر الذي يتحقّق فعلاً بإعدامه. ويموت الديكتاتور الفيليبيني ماركوس، في القصّة الثامنة، بسكتة دماغية خوفاً من ملاك أنبأت به قراءة طالَعه، في كوب شاي.
الخوف من النجاح
في القصّة التاسعة، يأمر الديكتاتور الغابوني عمر بونغو رجال دولته بالتعرّي، في الحفل الذي أقامه لهم، إثر صراعهم على التورتة، فيتمخّض عن ذلك التناقض الكبير بين البنية الفوقية (الثياب) والبنية التحتية (الملابس الداخلية). وتتكشّف سرقاتهم التي لم توفّر حتى اللباس الداخلي. وبذلك، يُفكّك الأهدل ازدواجية السلطة المستبدّة وفساد رجالها. وإذا كان فرنكو في القصّة الثالثة قد ضاق ذرعاً برجل نجح في التواصل مع الرب، فإنّ الديكتاتور الأوغندي عيدي أمين، في القصّة العاشرة، يضيق ذرعاً بنجاح أستاذ مسرحٍ حظيت أعماله بشعبية كبيرة، فيسلّط عليه من يزعجه ويطارده ويطلق النار عليه ويشوّه سمعته، وينجح في القضاء عليه. ويبلغ ارتيابه بالآخرين حدّه الأقصى حين يقوم بغزو تنزانيا، فيعدم خيرة ضبّاطه، ما يؤدّي إلى هزيمته وفراره إلى المنفى متأبّطاً جنونه.
ولا تكتمل الصورة النمطية التي يرسمها وجدي الأهدل للديكتاتور ما لم يتطرّق إلى غرابة أطواره، وانحرافه عن جادّة العقل والصواب، فنرى أنّ الديكتاتور الكمبودي بول بوت، في القصّة الحادية عشرة، يقوم بالتلصّص على الصحافية النرويجية سيغريد، ورسمها عارية، وممارسة الجنس معها، واعتقالها، وفرض الإقامة الجبرية عليها، وإطلاق سراحها، وتحميلها رسالة إلى السفير الأميركي يعرض فيها غزو فيتنام وإسقاط نظامها مقابل الدعم الاقتصادي والعسكري. وحين يفعل، ينقلب السحر على الساحر، فيهزم ويفرّ مع جماعته إلى الأدغال. ونرى الديكتاتور الأرجنتيني خورخه فيديلاّ، في القصّة الثانية عشرة، متنكّراً في مقهى، في بيونس أيرس، للإيقاع بمعارضيه، حتى إذا ما عثر على ريكاردو، المترجم البارع في قراءة النيات والملامح والكشف عن خبايا النفوس، يتّخذه مترجماً له، ويكون أولى ضحاياه وزير الدفاع، وثانيتها زوجة الرئيس. ونرى الديكتاتور الزيمبابوي موغابي، في القصّة الثالثة عشرة، يخون زوجته مع مديرة مكتبه غرايس ماروفو، ويتخلّص من وزير داخليته لتقصيره، وعِلْمِهِ بما لا ينبغي له العلم به. ونرى الديكتاتور الأنجواني محمد بطّال، في القصّة الرابعة عشرة، يُنفّذ انقلاباً عسكرياًّ بواسطة الأسرى المجرمين الذين يُحرّرهم من الأسر، ويُشكّل منهم حكومة يبلغ العبث فيها ذروته، فيسمّي القاتل وزيراً لحقوق الإنسان، والمغتصب وزيراً لشؤون المرأة، والقرصان وزيراً للاقتصاد والتجارة، على سبيل المثال لا الحصر. وحين تغزو الجزر الأخرى جزيرته، يهرب ويلجأ إلى جزيرة مايوت الفرنسية.
في "التعبئة"، يقوم وجدي الأهدل بتعرية الديكتاتورالأجنبي، وتجريده من هالته التاريخية، وتشويه صورته، والسخرية منه، فينتقم بذلك لآلاف الضحايا بواسطة الأدب. وبدا واضحاً ان القاص اكتفى بالديكتاتوريين الأجانب المعروفين عالمياً متبعداً عن العالم العربي.