على الرغم من التقارير الإعلامية المكررة حول طبيعة العلاقات المصرية - الأميركية الراهنة وتميزها بدليل تقديم بعض المساعدات الأميركية لمواجهة أزمة كورونا أو دعم البنية التحتية وتدشين لبعض المشروعات الجديدة في سيناء، إلا أن الواقع يشير إلى أن ما جرى ويجري في إطار التزامات أميركية محددة بالإطار الزمني المسبق، وأن الأمر جاء في سياق ما تقوم الجهات المعنية، وبخاصة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وأن ما قامت به الولايات المتحدة لا يمكن اعتباره مساراً مفصلياً جديداً يمكن أن يبنى عليه لاحقاً لأسباب عدة.
منح عاجلة:
وقعت الولايات المتحدة ومصر، من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، تعديلاً على الاتفاقية الثنائية للمساعدات بقيمة 6 ملايين دولار، بما يعكس استمرار دعم الشعب الأميركي للأولويات المشتركة بين الولايات المتحدة ومصر.
يهدف تعديل الاتفاقية الثنائية للمساعدات لشمال سيناء إلى دعم جهود مصر لتحفيز التنمية الاقتصادية الشاملة من خلال هذه الاتفاقية، تبني الوكالة الأميركية للتنمية الدولية على الاستثمارات السابقة في شمال سيناء لتوفير المياه الصالحة للشرب لنحو 300 ألف من السكان وخدمات الصرف الصحي إلى 100 ألف مواطن، وهو ما أكده السفير الأميركي جوناثان كوهين: واعتبرها دليلاً على الشراكة القوية والدائمة بين مصر وفي سيناء على وجه الخصوص.
في سياق آخر تبرعت الولايات المتحدة الأميركية للهلال الأحمر المصري بـ3 ملايين دولار، إذ ستدعم المنحة المقدمة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بشكل خاص جهود توزيع حقائب النظافة الشخصية، وتعزيز الحملات المتنقلة التابعة للهلال الأحمر المصري لتوسيع نطاق التوعية بممارسات النظافة الآمنة وتوفير الفحوصات الحرارية الأولية. وبهدف ضمان إرسال المتطوعين على وجه السرعة إلى المناطق التي تُعتبر في أمسّ الحاجة إلى تلك الخدمات.
استمرار التجاذبات
على الرغم مما سبق من نماذج للدعم الأميركي لمصر فإن ثمة ما يطرح ويرتبط بنمط العلاقات المصرية - الأميركية، والذي لم يشهد تطوراً هيكلياً حقيقياً بدليل ما يلي:
لم ينجح الجانب الأميركي على الرغم من قيامه بالوساطة المباشرة في ملف سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان في تحقيق موقف حاسم، والضغط على الجانب الإثيوبي بصورة فاعلة بل وترك المشهد التفاوضي لأشهر عدة مما يمنح الجانب الإثيوبي قدرات جديدة على المناورة وصولاً إلى مشهد التفاوض الثلاثي أخيراً حيث لم يقم بأي دور لافت على الرغم من إدراكه أهمية ملف الأمن المائي لمصر، واعتبار القاهرة الملف بأكمله قضية أمن قومي، حيث لا تنازلات حقيقية من مصر أو خيارات وسط.
جاء كذلك موقف الإدارة الأميركية من المبادرة المصرية في ليبيا ليس جديداً بل تم في سياق مواقف أميركية حقيقية وقوية، وجاء الرد الأميركي في أعقاب المواقف الفرنسية والروسية والإيطالية، مما يعني أن واشنطن لم ترغب أو تسعى لدعم الجانب المصري في الملف، وترك الأمر لتفاعلات متعددة ستكون مفتوحة على مسارات متعددة على الرغم مما بدا من رسائل دبلوماسية متعددة ذات بعد رمزي ليس أكثر.
دخل الجانب الأميركي على خط الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي في ملف ضم المستوطنات وغور الأردن، وشُكلت لجنة معنية لرسم الخرائط وإجراء تنسيق في ملف الترتيبات الأمنية المقبلة، ولم تتم إحاطة الجانب الأميركي للشريك المصري، وهو ما انطبق على الجانب الأردني أيضاً وإن كانت للأردن حساباته المباشرة في ملف الأغوار، أما مصر فهي الشريك الحقيقي والفاعل في ملف الصراع العربي - الإسرائيلي.
ركز الجانب الأميركي في مجمل اتصالاته الأخيرة على أطراف إقليمية أخرى، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، وترك الجانب الأميركي شراكته مع مصر وبنت الإدارة الأميركية تقييماتها على ضرورة الانفتاح العربي الإقليمي على إسرائيل، وهو ما ظهر في مقاربة المنامة ثم في خطة السلام والازدهار في الشرق الأوسط، التي طرحتها الإدارة الأميركية، وجاءت مصر في سياق عام لمشروعات التعاون الإقليمي شأنها شأن الدول العربية الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تعمل الإدارة الأميركية على دعم تحركات الجانب المصري في مناطق الحركة المصرية في الإقليم بل تعاملت مع مصر كطرف شأنه شأن الأطراف الأخرى، على الرغم من أن مصر التحقت بأغلب التحالفات التي تمت، سواء كان التحالف الدولي البحري ومنتدى البحر الأحمر وخليج عدن، ومن قبل في إطار مواجهة تنظيم داعش، وتغافلت الولايات المتحدة عن صدقية الحضور المصري الكبير والمواجه لأي خطر إقليمي يمكن أن يهدد أمن الدول العربية وبخاصة في الخليج، وعلى اعتبار أن أمن مصر يتماس مع الأمن القومي في الخليج، وهو ما أكدته مصر أكثر من مرة.
وقفت الولايات المتحدة في موقف المراقب عن بعد في إطار صراع الأطراف في إقليم شرق المتوسط ولم تسعَ لدعم الحضور المصري في أمن المتوسط وتشكيل منتدى غاز المتوسط والتي طالبت أن تدخل فيه عضواً بعد تقدم فرنسا بالطلب ذاته، وعلى الرغم من أن الحسابات الأميركية معقدة تماماً في إقليم شرق المتوسط، إلا أن الإدارة الأميركية فضلت التنسيق مع حليفتها إسرائيل بل وتركيا واليونان وبصورة مباشرة وليس مع الشريك المصري الرئيسي في الإقليم. والمتوقع تزايد الحضور الأميركي في الفترة المقبلة مع بدء إجراء عمليات ترسيم الحدود بين إيطاليا واليونان ومن قبل بين مصر وقبرص والمقبل بين اليونان ومصر ثم بين إسرائيل ومصر، لترسيم الحدود البحرية.
مع إعلان وزير الدفاع الأميركي مايك أسبر أن الإدارة الأميركية ستراجع عدداً من قواتها الخارجية في دول عدة في العالم ومنها المشاركة الأميركية في القوة متعددة الجنسيات في سيناء أثيرت إشكاليات متعلقة بمستقبل هذه القوة التي تترأسها الولايات المتحدة، وتم إقرارها وفقاً لصيغة معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وبوساطة أميركية مباشرة، تم إقرارها في التوقيع مع الجانبين في المعاهدة باعتبار أن الولايات المتحدة شريك أصيل فيها، وبما أقرته من ترتيبات أمنية استمرت لأكثر من 41 عاماً على طول الحدود المصرية – الإسرائيلية، حيث لم تُنتهك من قبل، أو وقعت اشتباكات مسلحة على سبيل المثال، مما يؤكد استمرار الإرادة السياسية الثنائية للجانبين بالعمل بصيغة المعاهدة طوال هذه السنوات.
وفي المقابل ظل التخوف المصري من احتمالات تشجيع القرار الأميركي للعناصر الإرهابية للعمل على هز الاستقرار في سيناء مجدداً مع التقدير الاستراتيجي بأن مصر نجحت في مواجهة الإرهاب عبر عملياتها المكثفة في سيناء طوال الفترة الماضية، على الرغم من استمرار المواجهات التي لا تزال قائمة، بالتالي فإن الموقف الأميركي- أيا كانت مساراته المحتملة- قد يؤدي لتداعيات سلبية يجب التحسب لها مصرياً وإسرائيلياً.
قد يكون هناك أحد بديلين أمام الإدارة الراهنة، الأول: الانسحاب المباشر: إن إدارة ترامب لا ترغب بوجود أي من عناصرها داخل سيناء في الوقت الحالي، وسيناريو الانسحاب وارد، مع احتمالات إبقاء بعض العناصر الفنية فقط على اعتبار أن بقاء جنود أميركا في سيناء في ظل الوضع الراهن، وتصاعد الأعمال الإرهابية، واستهدافها للجيش المصري وكذلك القوات الدولية بصورة متكررة، سيدفع بالتعجيل بتنفيذ القرار الأميركي. (سيناريو سحب القوات الدولية من سيناء حدث في السابق وكانت نتيجته حرب 1967)، وقد سبق أن سحبت الإدارة الأميركية قواتها من سيناء وقلصت وجودها في عام 2016. الثاني الانسحاب التكتيكي: من المحتمل تأجيل تنفيذ القرار أو اتمامه على مرحل على اعتبار أن بقاء القوات الأميركية في القوة الدولية يعد أمراً مهماً ويأتي في سياق رغبة الجانبين المصري والإسرائيلي، وانسحابها في هذا الوقت سيؤدي لنتائج سلبية حقيقية، وسيدفع بالعناصر الإرهابية هناك لتصعيد هجماتها، فالقوة تقوم بضبط الخط الحدودي، ورصد أماكن المسلحين، والمراقبة الدائمة وتسليم الإحداثيات للجيشين المصري والإسرائيلي؛ التعامل مع أي تصعيد قائم (تشرف القوة بالأساس على نزع السلاح ومراقبة الوضع الأمني على طول طريق "فيلادلفيا" بين غزة ومصر، والشريط الضيق على الجانب الإسرائيلي من الحدود).
الخلاصة:
ليست العلاقات المصرية – الأميركية في مرحلة ازدهار وليس في الأمر تسهيلات أو منح خاصة مع استمرار التحفظات الأميركية على صفقات التسلح المصري، وعدم تركيزها على الولايات المتحدة فقط، كما لم يتم استئناف الحوار الاستراتيجي المصري - الأميركي ولم يتم تطوير منظومة العلاقات الثنائية بالمعنى المعروف، ولم يقترب الطرفان من توسيع نطاق "كويز" التي تضم إسرائيل أيضاً، كما لم يتم إجراء مناورات جديدة (ستجرى المناورات الخاصة بالنجم الساطع نهاية العام الحالي، التدريب العسكري المصري – الأميركي - الإماراتي (تحية النسر - استجابة النسر 2019). والرسالة أيضاً أنه لا تزال المناكفات الأميركية في لجان الكونغرس قائمة بدليل إقدام السيناتور جاكي جاكسون، عضو الكونغرس عن الحزب الديموقراطي منذ ثلاثة عقود متواصلة، وعضو جمعيات الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، وله علاقات تمويلية واسعة مع قطر، وهو ضيف دائم على المؤتمرات الدولية التي تنظمها الدوحة بتحرك ضد ما وصفه بـ "سلب حقوق" إثيوبيا في التنمية وانحياز الإدارة الأميركية الواضح مع مصر. واستنكر محاولة القاهرة استخدام الولايات المتحدة والبنك الدولي وسيلة من أجل إجبار إثيوبيا على التوقيع على الاتفاقية "الاستعمارية". كما استنكر ما وصفه بـ"الظلم" الواقع على إثيوبيا بخصوص نهر النيل، وأكد أن إثيوبيا تعمل على الدفاع عن حقها هذا، ناهيك عن فتح ملف الحقوق والحريات في بعض اللجان المتربصة بمصر.
والخلاصة الأخيرة أن المساعدات الأميركية الراهنة لمصر لا تحمل جديداً وتتم في سياقات محددة، ويجب أن تفهم على أنها تمت في سياق ما تم التعامل معه في الفترة الماضية ومع دول ليست حليفة أو تربطها شراكة حقيقية مع الإدارة الأميركية، التي لا تزال ترفع شعار النفقة والتكلفة والعائد وحسابات المكسب والخسارة في مواجهة الجميع بما في ذلك الحلفاء في الأقاليم الاستراتيجية وعلى رأسها مصر وإسرائيل والأردن في الشرق الأوسط.