الفيلسوف سونسيوس مطران طلميثة عام 400م يشكو حال ليبيا!:
كريالس حاكم الليبيين، يُشترى بأبخس الأثمان، لا يحفل بحسن السمعة، ولا يعبأ بأمان المدن، ويختلس أجور الجنود المحليين، أما الأجانب فكان يخشاهم... جميعاً لا يفكرون إلّا في الثراء، يتميّزون بغلظ عاداتهم وحقارة مشاعرهم، وفقط في المجتمع الفاسد فعلاً، يمكنهم أن يفلتوا من الاحتقار.
إني أعيش وسط مصائب وطني، وكوارثه تملؤني بالأحزان، وفي كل يوم أشهد أسلحة الأعداء، وأشهد الناس يُذبحون كالقطعان السافلة، وأتنسم هواء فاسداً منبعثاً من الجثث، وأتوقّع لنفسي أن ألقى المصير ذاته الذي يلقاه كثيرون، إذ كيف يكون عندي أمل، بينما السماء تكدّرها أسراب من الطيور الجارحة، التي تنتظر فرائسها؟. ومع ذلك، فلا يهمّ، إني لن أترك هذا المكان: ألستُ ليبياً؟ هنا ولدتُ، وهنا أشهدُ قبور أجدادي النبلاء.
إحفظ، أيها السعيد، لليبيين كل ما حصلوا عليه، احفظه لمدة طويلة من الزمن، مراعاةً لذكر إحسانك ومراعاة للآلام القاسية التي عانتها نفسي!.
ليبيا التمثال المنسي في الطين!
قد يكون الحجر الأساس، في المسألة الليبية، المنسي: الجغرافيا، ويمكن أن تكون ليبيا أرض الخفاء التي يُظهرُها التاريخ، ليبيا دولة الجغرافيا (وكر الفينيق)، فالمثل الشعبي الليبي يقول "الدولة أرض والعرب طيور"*، والجغرافيا فصيحة بأن ليبيا قلب المتوسط بساحل يقارب 2000 كم، وبأن البلاد قارة مترامية الأطراف وجُزر معزولة باليباب.
المؤرخ الفيلسوف أرنولد توينبي، يصف جغرافيا ليبيا:
"الوسط الفاصل، أو الشقة العازلة إذا شئت، لا يتحتّم أن يكون هو الماء، فالصحراء القاحلة تصلح بديلاً من ذلك، والواقع أن كل واحة لَهِي جزيرة، لكن الماء في داخلها، عوضاً عن كونه حولها. كذلك يمكن أن تكون الجزيرة مفصولة بالماء من جانب وبالصحراء من جانب آخر، وهذه طبيعة جزيرتين اثنتين يحوطهما ماء البحر الأبيض المتوسط، وحجارة ورمال الصحراء الليبية والصحراء الكبرى. وليست الأكثر بُعداً إلى الشرق من هاتين الجزيرتين – جبل برقة الأخضر – إلّا نُسخة طبق الأصل، لكنها أقصر، من جارتها الشمالية جزيرة كريت. أما تلك الأكثر بُعداً إلى الغرب من الاثنتين، والمعروفة في اللغة العربية باسم المغرب، أي غرب العالم العربي، فهي نسخة طبق الأصل، لكنها أطول، من جارتها الشرقية صقلية. إنّ الاتصال أو العزل نسبي، فلبلوغ أي من تينك الجزيرتين من جهة الشمال، يجب أن تركب البحر وللوصول إلى إحداهما من الجنوب، يتوجب عليك أن تصطنع الجمل ركوبة لك. لكن الصحراء، مثلها مثل البحر، تغدو سبيلاً لأيّما إنسان، يحسن استعمال الوسيلة المحلية المناسبة للاتصال. فعلى مساق التاريخ، تم غزو كل من الجزيرتين بنجاح، كما تسنّى احتلالهما عن الطريقين...".
هذا العامل المنسي في الطين هو التمثال الليبي، المكوَّن من جزر ثلاث: طرابلس، برقة، فزان. طرابلس الرأس باعتبارها الكثافة السكانية، وبرقة القلب، فهي سكانها من كل البلاد، لذا اعتُبرت مدينة بنغازي ليبيا المصغرة، وفزان البدن، فمنها في القديم تجارة القوافل، وكانت واحة "مرزق" ترانزيت الدنيا بين أفريقيا والعالم، وهي حقول نفط ليبيا حالياً. ومن خلال هذا المُعطى تكوّن معزل، تمرّس الليبيون لجعله أداة وصل، وإن شكّل عائقا باعتباره "انتقام الجغرافيا". وفي سياق ذلك، يُشير المفكر والصحافي الأميركي روبرت د. كابلان، إلى مسألة جغرافيا ليبيا، بعد الربيع العربي، وإن بشكلٍ مُقتضب، على أنّه:
"كلّما ازدادت معرفة المرء، بتاريخ وجغرافيا أي دولة في الشرق الأوسط، تناقص اندهاشه من مسار الأحداث، وقد يكون من قبيل المُصادفة جزئياً فقط، أن بدأت الاضطرابات في تونس. تُظهر خريطـة العصور الكلاسيكية القديمة، تركُّزاً للمستوطنات، في الموقع الذي تحتلّه تونس اليوم، جنباً إلى جنب مع الفراغ النسبي الذي يُميّز ما صار اليوم الجزائر وليبيا. ولكنها تمثّل لساناً ناتئاً في البحر المتوسط قريباً من صقليـة، كانت تونس هي المركـز الديموغرافي لشمال أفريقيـا، ليس فقط في ظلّ القرطاجيين والرومـان، ولكن تحت حكم الوندال والبيزنطيين والعرب خلال العصور الوسطى والأتراك. وفي حين كانت الجزائر الواقعة إلى الغرب منها، وليبيا جارتها من الشرق، تعبيرات جغرافية غامضة، كانت تونس تمثّل عنقوداً من الحضارة القديمة العهد. أما بالنسبة إلى ليبيا، فقد كانت منطقتها الغربية المتمثّلة في إقليم طرابلس، موجّهة نحو تونس عبر التاريخ، بينما كانت منطقتها الشرقية المتمثّلة في إقليم برقة –أي بنغازي- موجّهة دائماً نحو مصر".
ليبيا طائر الفينيق
جناحا الشرق والغرب، صدر المتوسط، بطن الصحاري الكبرى، ثروتها أنها القلب، لذا كان لا بد للإغريق من أثينا الجنوب (قورينا/ شرق ليبيا)، وللفينيقين طرابلس الغرب (أويا). وفي الأسطورة اليونانية أن سرت، كانت حدّاً باهظ الثمن: لقد اتفق المتنافسان على ليبيا أن يُجريا مسابقة في العدو، فخرج إغريقيان من قورينا، كما خرج فينيقيان من أويا، في عدو متواصل لقطع المسافة المبتغاة، وحيث يصلان يكون حدّاً. الإغريقيان تمكّنا من العدو أكثر، فلم يقبل الفينيقيون النتيجة، ولفكّ الاشتباك، طلب الفينيقيون دفن المتسابِقَيْن الإغريقيَيْن أحياء، وكانا أخوين عُرفا بـ"الأخوان فيليني"، من قبِلا الشرط، وبذا دُفن الخصام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*العرب أي الناس.