غيب الموت التشكيلي السوداني حسين جمعان عن عمر يناهز السبعين عاماً، وهو يعد واحداً من أبرز رموز الحركة التشكيلية السودانية المعاصرة، وقد شغل العديد من المناصب الأكاديمية، كان آخرها عمادة كلية العلوم والتكنولوجيا في الخرطوم. جمع الفنان الراحل في تجربته الإبداعية بين مهارات الرسم والتصوير والطباعة والخزف والنحت، كما طالت اهتمامته الكتابة الشعرية والنقدية، وهو يُعد من الرعيل الثاني للفنانين السودانيين. عُرف الفنان حسين جمعان باستلهامه للبيئة والموروث السودانيين في أعماله التي غلبت عليها الرمزية والتجريد. نال الفنان الراحل خلال مساره الفني الممتد من منتصف الستينيات من القرن الماضي العديد من الجوائز، بينها جائزة نوما لأدب ورسومات الأطفال باليابان عام 1999، كما شارك فيما بعد في هيئة تحكيم الجائزة نفسها اعترافاً وتقديراً لمكانته الفنية.
تخرج الفنان حسين جمعان في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم، وتأثر في أعماله الأولى بالأفكار والممارسات الفنية للرعيل الأول من الفنانين السودانيين، وبعد سفره لاستكمال تعليمه في الكلية الملكية في لندن تغيرت قناعاته الفنية وبدأ البحث بجدية عن مشروعه الخاص وهويته الفنية التي تميزه. بعد رجوعه إلى السودان أصبح حسين جمعان أكثر تمسكاً باستلهام الموروث السوداني في أعماله، مغلفاً إياه بإطار من الرمزية والتعبيرية. بدت إرهاصات ذلك التوجه واضحة في رسومه الأولى التي كان ينشرها في الصحف السودانية، والتي غلبت عليها المفردات والعناصر المحلية في سياق أسطوري وشعري. إتجه حسين جمعان فيما بعد إلى البحث عن مسارات أخرى للشكل، فاستلهم رسوم الوشم في أعماله مع ظهور مكثف وواضح للأحرف والكلمات العربية، كما ظهر تأثير الرسوم البدائية في بناء الأشكال والمعالجات القوية والصريحة للجسد الإنساني، هذا خلافاً للرموز والعلامات وطريقته في توزيع العناصر على مساحة اللوحة.
الطبيعة السودانية
في أعماله المرسومة بالأبيض والأسود عادة ما تتشكل المفردات بدءاً من نقطة صغيرة أو تفصيلة هامشية، لتتفجر بعدها المساحة بالخطوط والتقاطعات والأشكال، وقد يكتفي أحياناً في معالجاته تلك بعنصر واحد أو عنصرين يتصدران المساحة مع خلفية حيادية مُحيطة. أما في أعماله الملونة فعادة ما تُسيطر عليها الدرجات الدافئة والصريحة، وهي سمة تُميز أعمال الفنانين السودانيين على نحو عام، كانعكاس لثراء الطبيعة السودانية وتنوعها من ناحية، وتفرد السودان كمعبر وجسر يربط بين الثقافة الأفريقية في الجنوب والعربية في الشمال.
في أعماله التصويرية تبدو مفردات الفنان حسين جمعان أميل إلى الوضوح، كما تنحى إلى التكرار، وهو ليس تكراراً زخرفياً بقدر ما هو رغبة في التأكيد على إيقاع العمل وموسيقاه الداخلية. ينثر الفنان عناصره في أغلب الأحيان من دون اشتباك أو تقاطع فيما بينها، ما يمنح كل شكل من الأشكال المرسومة فرادته واستقلاليته، فهو في تكراره للعناصر على سطح العمل يبدو حريصاً على احتفاظ كل شكل من الأشكال المرسومة باستقلاليتة البصرية عن بقية الأشكال الأخرى المحيطة به، حتى مع تكرار العنصر الواحد أكثر من مرة داخل المساحة.
في أعمال حسين جمعان الملونة ذات الطبيعة البانورامية تبدو العناصر المرسومة أحياناً كبقايا قافلة عابرة في صحراء مترامية، أو أطلال مسكونة بالصمت والوحدة. في هذه الأعمال تجتمع الأشكال البشرية والحيوانية والطيور والحشرات، جنباً إلى جنب مع العلامات والرموز، وكلها سمات بصرية شكلت مع الوقت روح تجربته الإبداعية. تتداخل هنا المفردات المُستلهمة من رسوم الكهوف البدائية مع علامات الوشم، والمُعالجات البدائية للحرف العربي على نحو أقرب ما يكون للنقوش النبطية القديمة، كأن الفنان يسعى هنا إلى تلمس صورة الأشكال الأولى والعودة بها إلى أصولها وجوهرها. نلمح هذا السلوك في معالجات الفنان لأشكال الحيوانات والنبات، وتبنيه للرموز والعلامات القديمة المستوحاة من الموروث السوداني. هو ينثر عناصره في شكل فوضوي، ثم يعيد صوغها من جديد في مستويات مُنتظمة، لكل مستوى من هذه المستويات طبيعته الخاصة وروحه المختلفة والمتفردة. في أعمال أخرى يبدو الفنان أكثر ميلاً إلى التعبيرية الرمزية، في لوحات قليلة التفاصيل، يبرز فيها معالجاته المُبتكرة للوجه والملامح الإنسانية، وهي مُعالجات أقرب إلى التجريد والاختزال والتقشف الواضح في توظيف الخطوط والدرجات اللونية. رحل حسين جمعان بعد أن أرسى قواعد أسلوبية راسخة في استلهام الموروث، ستظل مُرتبطة به كعلامة مُضيئة في تاريخ التشكيل السوداني والعربي.