"مجموعة من الرجال، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، أجسادهم ملطخة بالرماد المحروق، وشعورهم طويلة وكثيفة، وغير منسقة، مسدلة على وجوههم، وعراة إلا من عقود من الخرز وقطع من "اللحم" مجدولة على صدورهم، يدخنون غلايين خشبية، ويتمتمون بطقوس وحركات "غير مفهومة"، منعزلين عمن حولهم، لا يتحدثون إلى أحد ولا يقترب منهم أحد، هذا هو المشهد الذي استوقفني وكان النهار على وشك الزوال، والشمس تميل إلى الغروب، بينما "الحجيج" الهندوس يمارسون طقوسهم في نهر "الغانغ" المقدس أثناء احتفالاتهم بمهرجان "كمبه ميلا".
الحذر سيد الموقف
حاولت الاقتراب من المشهد، لكن الحذر كان سيد الموقف، بعد نصيحة الدليل الذي اصطحب محرر "اندبندنت عربية" خلال مهرجان "كمبه ميلا" أو "الحج الهندوسي"، إذ أخبرني أنه ليس من السهل أن تتحدث إلى هؤلاء "المعتزلين"، قد تتعرض إلى الخطر في أي لحظة، فلا أحد يتوقع ردود فعلهم.
غرابة المشهد، كانت مصدر شغف لاقتحامه، لكن طبيعة همهمات المجتمعين كانت "مصدر قلق"، إلى أن عرَّفنا بهويتهم، أحد حفيظ، متطوع خدمة الحجيج في المهرجان.
أكلة لحوم البشر
حفيظ أخبرني: "هؤلاء يعرفون باسم طائفة الأغوري، ومن أبرز عاداتهم أنهم يأكلون، ويتأملون، وينامون، ويمارسون الجنس وسط الجثث المحترقة، ويهيمون على وجوههم عراة، ويأكلون اللحم البشري، ويستخدمون الجماجم البشرية كطاسات وأوعية للشرب، ويدخنون الماريغوانا، ولا يخرجون من عزلتهم إلا في أيام كمبه ميلا (الحج الهندوسي الذى تجري فعالياته في الهند كل 4 سنوات)".
ووفق كلمات حفيظ، يعيش الأغوري أغلب الأحيان في عزلة، ونادراً ما يثقون بالآخرين، وليس لهم أي روابط أسرية، معظمهم ينتمي إلى الطبقات الدنيا، ولا خروج لهم إلا في أيام "كمبه ميلا".
ويعد مهرجان كمبه ميلا (الوعاء المقدس) أكبر تجمع سلمي للحجاج في العالم، حيث يقصد الزوار نهر "الغانج" ليستحموا أو يغطسوا فيه اعتقاداً منهم بتخلص الجسد من الأمراض والروح من الخطايا، بعدما يقطع عشرات الملايين من الهنود، آلاف الكيلومترات للقدوم إلى النهر المقدس، بحثا عن "استعادة الحياة" عبر الاغتسال عند ملتقى نهري الغانج ويامونا مع نهر ساراسواتي "الأسطوري"، وفقما أخبر الحجيج "اندبندنت عربية".
يقام مهرجان كمبه ميلا، كل أربع سنوات في واحدة من أربع مدن بالتناوب، هي أوتار براديش (الله أباد سابقاً)، وهاريدوار، وأوجان وناشيك، ويحضره نحو 150 مليون شخص، بينهم مليون زائر أجنبي، بغض النظر عن الطائفة أو العقيدة أو الجنس، وللمهرجان دورٌ روحيٌّ أساسي في الهند، وله تأثير هائل على الهنود العاديين، إذ يجمع وفق زائريه بين علم الفلك، والتنجيم، والروحانية، والتقاليد الطقسية، والعادات والممارسات الثقافية والاجتماعية، ما يجعله مهرجاناً زاخراً بالمعرفة بتجلياتها المختلفة.
طائفة الأغوري... من هم؟
الأغوري، كلمه تعني باللغة السنسكريتية (لغة الهند القديمة التي تتعبد بها الهندوسية)، "الشجعان الذين لا يخافون"، وبحسب، البروفيسور المختص في التاريخ الهندي نيشا بنجاني، فإن "البعض يعتقد أن جذور هذه الطائفة منشقة عن طائفة الكابلاكا (حملة الجماجم) التي نشأت في القرن الرابع الميلادي، وظلت موجودة حتى القرن السابع الميلادي، وكانت تتقرب إلى آلهتها بالقرابين البشرية، وأغلب الظن أنها أوشك على الانقراض).
يضيف بنجاني: "كلا الطائفتين تعبدا الإله الهندي شافا (إله الدمار عند الهندوس) وقرينته شاكثي، ويعيش أتباعهم بالقرب من المقابر، ويغطون أجسادهم برماد البقايا البشرية المحترقة، ويحيطون طقوسهم بسرية تامة، كما يستخدمون البقايا البشرية بتلك الطقوس، إذ يستخدم المنتمون لتلك الطائفة الجماجم البشرية لشرب المياه، ويأكلون اللحم البشري أيضاً، اعتقاداً منهم بأنه يمنح لمن يأكله القوة الروحية والجسدية العالية، ويساعده على إطالة عمره".
بنجاني، أوضح "أن المبدأ الأساسي لممارساتهم هو تجاوز قوانين النقاء لتحقيق التنوير الروحي للتوحد مع الإله". معتبراً أن "منهج الأغوري هو كسر المحرمات، وتجاوز المفاهيم المعتادة للخير والشر، فطريقهم للتقدم الروحي يشمل ممارسات خطيرة ومجنونة؛ مثل تناول اللحم البشري، وحتى فضلاتهم، كما يعتقدون أن إقدامهم على ذلك يعزز حالة الوعي".
ذكر مانوج ثاكار، مؤلف كتاب "أغوري، أن "الأغوريين مجموعة بسيطة تعيش مع الطبيعة، وليس لهم مطالب، ويرون في كل شيء تجسيدا للإله، وهم لا يرفضون أحداً، ولا ينكرون أحداً، ولا يفرقون بين لحم حيوان أو بشر إذ يأكلون ما يجدونه، وتمثل الأضحية الحيوانية جزءاً مهماً من عباداتهم، ورغم تدخين الماريغوانا، فإنهم يحاولون الاحتفاظ بوعيهم حتى وهم في حالة الانتشاء".
ووفق حفيظ، فإن الأغوريين، المتمركزين بالأساس في قرية فاراناسي، شمال الهند على ضفاف نهر "الغانغ"، يعتقدون أن السلطة والقوة تأتي من العيش بين الأموات والجثث، معتبراً أنهم يستمدون "روحانيتهم"، من رجل دين زاهد يدعي "كينارام"، عاش لمئة وخمسين عاماً، قبل قرون من الزمن، ويرون أن "الجسم غير منطقي، واللحوم والدماء عابرة، وهذا هو السبب في أنهم يحيطون أنفسهم بالموت، ويتنقل المنتمون إلى الطائفة أحياناً من دون ملابس للدلالة على إظهار الجسم بأنقى صورة".
طقوس سرية
ورغم الحذر الذي أوصى به دليل المهرجان حفيظ، فإن هناك محاولات هندية سابقة للاقتراب عن كثب من عالم "الأغوري" السري، والمحاط "بطلاسم لا يمكن لأحد الاقتراب منها"، دون جدوى، إذ "عليك التعايش معهم لشهور، وقد يكون لسنوات لكسب ثقتهم به والسماح لك بتصويرهم أثناء ممارسة وأداء الطقوس"، وفقا لحفيظ.
أشباه "الأغوري"
في الوقت الذى أكد فيه المرافقون أن ما يقوم به الأغوري طقوس دينية وفق معتقدهم، أخبرنا آخرون أن هناك مرتزقة يتمثلون حالة الأغوري للتكسب من مظهرهم.
يقول حفيظ: "قد يتظاهر البعض خلال أيام المهرجان بأنه أغوري لتسلية السياح والحجاج وكسب المال، حيث يقدم الناس لهم الطعام والمال، ولكن الأغوري الحق لا يعنى بالمال". يضيف "إنهم يصلون من أجل الجميع، ولا يعنون بالناس الذين يريدون بركاتهم من أجل طفل أو بناء منزل".
مرضى الجذام
وفقا للبروفيسور بنجاني: "فخلال العقود الماضية أسهم الأغوريون في الخدمات الاجتماعية مثل تقديم الدواء لمرضى الجذام. إذ يجد العديد من مرضى الجذام، الذين تخلت عنهم أسرهم، الملاذ في مستشفى يديره الأغوريون بقرية فاراناسي الذين يقدمون للمرضى "العلاج والبركات"، وأكد أنه "حتي في ممارسة الطقوس الأكثر غرابة لدي الأغوري، فإن هناك قواعد لا يمكن انتهاكها".
وضرب بنجاني، مثلا على ذلك، في ممارسة "الجنس مع الموتى"، قائلا: "رغم أن بعض الأغوريين يمارسون الجنس مع أموات، فإنه محرم عليهم الممارسة الجنسية مع العاهرات أو المثليين، وعندما يموتون فإن الأغوريين الآخرين لا يلتهمونهم، بل إن أجسادهم تحرق أو تدفن مثل الآخرين".