منذ استقلال الجزائر في مطلع ستينيات القرن الماضي وهناك حالة استقرار نسبي في الشمال الأفريقي، ولم يأخذ ذلك الإقليم اهتماماً إعلامياً منذ ذلك الحين حتى وقعت أحداث الربيع العربي في ليبيا وسقوط حكم القذافي، ومنذ ذلك الحين أصبحت المسألة الليبية مطروحة أمام القوى الدولية والإقليمية على السواء، ودخل ذلك الشعب الذي عانى أكثر من أربعين عاماً في ظل حكم ديكتاتوري مضطرب يستحيل التنبؤ بقراراته، أو فهم كثير من تصرفاته في منحنى خطير، وأصبحت ليبيا في نظر الطامعين لقمة سائغة بما فيها من نفط، وغاز، وساحل طويل على البحر الأبيض، ومساحات شاسعة من الأراضي؛ لأن ليبيا كانت مملكة فيدرالية تحت حكم آل السنوسي؛ لذلك فإن أطماع كل طرف اتجهت نحو إقليم بذاته خصوصاً الأقاليم الثلاثة الرئيسة برقة وطرابلس وفزان فضلاً عن أهمية بعض المدن الاستراتيجية مثل سرت ومصراتة، بالإضافة إلى كل من طرابلس وبني غازي مع تداخل قبلي وعشائري له تأثيره في الحياة السياسية ومستقبل البلاد، ولما أطلت دول الجوار على مسرح الأحداث في ليبيا أدركت أننا أمام قضية شائكة ومشكلة معقدة واحتمالات مفتوحة للصراع بين القوى المختلفة، فسعى إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بجسر جوي مفتوح يحمل آلاف المرتزقة من الجماعات الإرهابية وفلول تنظيم داعش ليصنع منهم ركيزة تضعه على مائدة المفاوضات حول مستقبل الدولة الليبية، وهو يستدعي التاريخ العثماني في أسوأ مراحله ويريد أن يضع قدماً دائمة في ذلك البلد العربي الأفريقي، وكان لا بد أن تقلق مصر وتونس والجزائر والسودان وغيرها من الدول المحيطة بالقطر الليبي، وكانت مصر أكثرهم قلقاً وأشدهم حرصاً على وحدة التراب الليبي وسلامة أراضيه، خصوصاً أنها تحتفظ بشريط حدودي طويل مع ليبيا يمتد لما يقرب من ألف ومائتين كيلو متر، فضلاً عن التداخل القبلي والامتداد السكاني.
ففي مصر خمس محافظات على الأقل من أصول مغاربية، بل وليبية تحديداً، وهي محافظات مرسى مطروح والبحيرة والفيوم والوادي الجديد وغرب المنيا وصولاً إلى الحدود السودانية. وأتذكر شخصياً أنني كنت أعيش بمدينة دمنهور في بناية كبيرة تحتل أربع شقق منها عائلات ليبية، فالتداخل السكاني بين المصريين والليبيين أمر معروف، بل إن مدينة الإسكندرية كانت حاضنة لجاليات ليبية يمتد نشاطها حتى السلوم، كما أن قبائل أولاد علي مثّلت نسيجاً مشتركاً بين الشعبين الليبي والمصري، أما الجزائر فهي دولة شديدة المراس قوية البأس تنظر إلى ليبيا نظرة القطر الشقيق، وهي بالطبع أقرب إلى الإقليم الغربي من الفيدرالية الليبية، كذلك فإن الشعب التونسي يرتبط بالشعب الليبي بأقوى الأواصر وأشد الصلات ويشترك معهم في ذلك دول أخرى مثل السودان وتشاد ومالي، أما أن يهبط عليهم ذلك السلطان العثماني الجديد المعبر عن الحركة الإسلامية المتطرفة في السنوات الأخيرة، فإن ذلك أمرٌ يبدو وكأنه محاولة لسكب الزيت على النار وإشعال الحرائق صباح مساء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كنا نعترف أن المشرق العربي قد شغلنا جميعاً بمشكلاته وأزماته وفي مقدمتها القضية العربية الأولى المتمثلة في المشكلة الفلسطينية بتعقيداتها وملابساتها وتعدد الأطراف فيها، فالشمال العربي الأفريقي قد ساند دائماً قضايا المشرق ووقف إلى جانبها، ويجب أن نتذكر أن دولة مثل تونس احتضنت مقر الجامعة العربية لعدة سنوات في ظل ظروف إقليمية معروفة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، كما أنها استضافت القيادة الفلسطينية لسنوات أيضاً، كما أن أطول مظاهرة عرفتها المدن المغربية في السنوات الأخيرة كانت احتجاجاً على التدخل الأميركي بالعراق، فعروبة دول المغرب ليست محل جدال، لذلك فإننا نأسف أن الاتحاد المغاربي ليس له الوجود الذي كنا نتوقعه، وكان يمكن أن يسهم بحل الأزمة الليبية في إطار ذلك الاتحاد الإقليمي، الذي أدى إلى ضعفه النزاع التقليدي بين الدولتين الشقيقتين الجزائر والمغرب، ولذلك أظن أن الأزمة الليبية كان يمكن أن تحل في إطار دول الشمال الأفريقي بما فيها مصر، لأنها الدول صاحبة المصلحة الحقيقية في استقرار تلك الدولة المترامية الأطراف.
أما ما نشهده اليوم فهو تعبير عن صراع الأطماع بين القوى المختلفة الساعية إلى استنزاف ثروات ذلك القطر العربي الأفريقي المتوسطي، وتبدو ليبيا موضع اهتمام خاص لدول أوروبية، ربما تتقدمها إيطاليا وفرنسا، فضلاً عن ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا، ناهيك عن اليونان وقبرص اللتين تراقبان التحركات التركية بقلق وحذر شديدين، ولعلنا نطرح هنا بعض الملاحظات المتعلقة بمستقبل ليبيا التي تعصف بها الرياح السياسية العاتية والأطماع الاقتصادية المتضاربة، ونوجز ذلك فيما يلي:
أولاً: إن جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية لم تتمكنا حتى الآن من تحريك الصراع في اتجاه إيجابي، والسبب ضعف قدرة التنظيم الدولي المعاصر عموماً فضلاً عن زحام المشكلات في منطقة شرق المتوسط والساحل الأفريقي المطل على بحيرة الحضارات المسماه بالبحر المتوسط، فأصبح الأمر بكل المعايير جزءاً من كل مترابط بحيث أصبح السلم والأمن الدوليين مرتبطان بكثير من العوامل التي لا تقف عند حدود معينة، كما أن سياسة المحاور التي ظهرت على السطح قد أدت هي الأخرى إلى تأجيج الصراع وإشعال نار الفتنة، فهناك محور تركي قطري مدعوم من بعض الدول الكبرى، وهناك أيضاً دور أميركي ملتبس لا يبدو واضحاً حتى الآن، وأظن أن الرئيس الأميركي وإدارته في جانب والمؤسسات الدستورية بالولايات المتحدة الأميركية في جانب آخر تجاه المسألة الليبية.
ثانياً: أظن أن الاتصالات بين دول شمال أفريقيا لم تصنع أرضية واحدة تمنع التدخل الأجنبي في تلك الدولة الشقيقة وتدفعها نحو تسوية شاملة تحقق لها الاستقرار وتحول دون السيطرة الأجنبية على مقدراتها. نعم حاول المغاربة في الصخيرات، وحاول الجزائريون من خلال الدبلوماسية الثنائية، وحاول الأوروبيون في برلين. ولكن المشكلة المعقدة لا تزال تراوح مكانها بين حكومة الوفاق برئاسة السراج في الغرب وبين قوى الجيش الوطني بقيادة المشير حفتر في الشرق، ولكن التساؤل المثير يدور حول قبول الدول الكبرى بالتدخل التركي في ليبيا خصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية لا تعترض عليه ولكنها تخشى فقط تزايد التدخل الروسي في تلك المنطقة.
ثالثاً: إن ما جرى على الساحة الدولية جراء وباء كورونا قد ترك أثره في المشكلات الإقليمية وأدى إلى بطء الوصول إلى قرارات حاسمة ومواقف محددة، بل وصرف الجهود الدولية لعدة شهور بعيداً عن الصراعات القائمة دولية وإقليمية، وعندما رأت الدول المختلفة التعايش مع ذلك الوباء الزائر بدأت المواقف تتضح أكثر، والنوايا تنكشف كما لم يكن ذلك من قبل، ولكننا لا نستطيع أن نغفل أن السبب الرئيس هو التزاحم على الثروة الليبية التي تبدو مطمعاً أوروبياً مثلما الخليج مطمع أميركي، ويجب ألا ننسى أن طيران الأطلنطي هو الذي ضرب ليبيا لإسقاط القذافي وضمان بقاء الدولة في إطار من تحالفوا للسيطرة على ذلك الامتداد السياسي الكبير.
إننا نثمن هنا دور دول المغرب العربي ومصر في الأزمة الليبية ونعترف أن دورهم كان إيجابياً في معظم الأوقات، ولكننا نزعم في الوقت ذاته أن التدخلات الأجنبية غير المبررة ومنها ما تمارسه البحرية التركية في شرق المتوسط وعلى شواطئ ليبيا وجسر الطيران الممتد بعناصر من داعش ومجموعات إرهابية سوف تؤدي كلها إلى تأزم الموقف، ما لم يتم الوصول إلى حل ليبي ترتضيه كل الأطراف، خصوصاً أن رئيس البرلمان عقيلة صالح قد اتخذ موقفاً رافضاً للتدخل التركي الذي يضع عمامة السلطان فوق رأسه وعباءة الخليفة حول جسده للتمويه وإيجاد المبرر، بينما لا تزال آلام شعوب المنطقة سواء في الشرق الأوسط أو البلقان شاهدة على الاستعمار التركي بكل مآسيه ووحشيته التي تحتفظ بها ذاكرة الشعوب وتظل باقية في وجدان الأمم.