قبل استفحال وباء كورونا الذي ألزم الناس بيوتهم، وأغلق فيما أغلق دور السينما، كان فيلم الأميركية الشابة غريتا غرويغ "نساء صغيرات" واحداً من أكثر الإنتاجات الأميركية الجديدة لفتاً للنظر، خصوصاً أنه استعاد ذكرى فيلم آخر حول الموضوع نفسه كان مقتبساً بدوره من تلك الرواية الشهيرة، والأوتوبيوغرافية بالأحرى التي كتبتها لويزا م. إلكوت، التي خبّأت نفسها في الرواية خلف جو، واحدة من بنات الدكتور مارش الأربع.
ومن المعروف في تاريخ الأدب الأميركي أن هذه الرواية تعتبر، إلى جانب "كوخ العم توم" لهارييت بيتشر ستو، و"ذهب مع الريح" لمرغريت ميتشل، واحدة من أكثر الروايات الأميركية انتشاراً وارتباطاً بالحلم الأميركي بما فيه وما عليه. ومن المعروف بالتالي أن ما من فتاة أميركية قادرة على القراءة، لم تقرأ هذه الرواية. ومن هنا تعتبر أفلمتها من جديد حدثاً كبيراً لا يمكنه أن يمر من دون أن يلفت الأنظار.
العودة إلى كيوكور
لكن، الأكثر من هذا هو أن العودة إلى الرواية بأفلمتها قد أعادت إلى الواجهة اسم ذلك المخرج الهوليوودي المميّز جورج كيوكور، إذ إنه لئن كان يذكر بين الحين والآخر فإنما من خلال فيلمين كبيرين ارتبط اسمه بهما وهما "ذهب مع الريح" الذي بدأ العمل فيه، لكنه استُبدل قبل التصوير الفعلي مباشرة بفيكتور فليمنغ، و"سيدتي الجميلة" الذي حققه بالفعل في آخر أيامه، ليعتبر واحداً من أجمل الأفلام في تاريخ السينما الأميركية.
وعلينا أن لا ننسى هنا أن في الفيلمين تلعب المرأة الدور الأساس ما قفز باسم الشخصيتين الرئيسيتين إلى الواجهة في سينما أميركية اعتادت أن تعطي البطولة دائما إلى الرجال: سكارليت أوهارا في "ذهب مع الريح" ولايزا دوليتل في "سيدتي الجميلة"، علماً أن هذا الأخير مقتبس من "بيغماليون" لجورج برنارد شو، كما أن الفيلم الآخر عن مرغريت ميتشل كما ذكرنا.
ولنلاحظ هنا أن "نساء صغيرات" هو بدوره فيلم أدوار نسائية. بالتالي لم تكن أفلمته غريبة على كيوكور، إذ حققه مرة أولى عام 1933 معطياً فيه دور البطولة، أي دور جو مارش، إلى كاتارينا هيبورن التي كانت حينها في عز صباها وتألقها، حتى وإن قال بعض النقاد يومها إنها بدت كبيرة بعض الشيء على دور تلك الصبية التي تروي لنا بنفسها في الرواية، والفيلم، حكاية نشأتها العائلية مع أخواتها الثلاث وطموحها هي بأن تصبح كاتبة روائية.
هذه المرة في فيلم غريتا غرويغ لعبت الإيرلندية الرائعة سويرس رونان الدور نفسه فبدا جديراً بها، حتى ولو أن مقارنة الفيلمين بأكملهما لم تأتِ لصالح الفيلم الأجدّ، إذ أن كثراً رأوا أن جورج كيوكور تمكّن يومها وبعد كل شيء من التقاط جوهر الشخصيات النسائية، وتحديداً بفضل السيناريو الذي كتبه الزوجان فيكتور هرمان وسارة مايسون، ونالا بفضله أوسكار أفضل سيناريو بينما أخفق كيوكور في الحصول على أوسكار أفضل مخرج التي رُشّح لها.
سينما المرأة بكل وضوح
غير أن ذلك "الإخفاق" لا يُنقص طبعاً من مكانة كيوكور الذي يبقى واحداً من كبار المخرجين الهوليووديين الذين تركز اهتمامهم، من ناحية على سينما المرأة، ومن ناحية ثانية على السينما المقتبسة من الأدب، وقيل دائماً إن النجوم الذكور لا يحبون العمل معه، ومن هنا جاء التفسير الذي بدا منطقياً يوم كان من المفروض من الناحية المبدئية أن يقوم هو بإخراج فيلم "ذهب مع الريح" عند أواخر سنوات الثلاثين، غير أن المنتج سلزنيك سرعان ما استبعده، مستبدلاً إياه بفكتور فليمنغ كما أشرنا. يومها إذ تضاربت الروايات حول أسباب ذلك التبديل، رجّح الكثيرون كفة تلك الرواية التي تقول إن كلارك غايبل، نجم هوليوود الكبير في ذلك الحين، الذي حصل على دور ريت بطلر في مقابل فيفيان لي بدور سكارليت لبطولة الفيلم، كان هو الذي أصرّ على استبعاد كيوكور. لماذا؟ تحديداً لأن هذا الأخير بدا منذ البداية مهتماً بالدورين النسائيين في الفيلم (سكارليت وميلاني) أكثر بكثير من اهتمامه بالدور الذي سيلعبه غايبل.
والحال أن من يعرف شيئاً عن سينما جورج كيوكور وعن اختياراته في هذا المجال يمكنه أن يصدق هذه الحكاية. فكيوكور عرف، في تاريخ السينما العالمية، بأنه ثالث ثلاثة بين المخرجين الكبار الذين اهتموا بالمرأة وحياتها وعواطفها في أفلامهم، والآخران هما انغمار برغمان (السويد) وكنجو ميزوغوشي (اليابان).
دور السينما في تقدم القضية
وهنا قد يكون مناسباً لأن نفتح هلالين لنذكر أنه خلال استعادة الذكرى المئوية الأولى لولادة فن السينما قبل ربع قرن من الآن، لا شكّ أنه كان بوسع الكثيرين أن يتوقفوا لحظة لتأمل المعاملة الخاصة التي عاملت بها السينما قضية المرأة، وكيف أسهمت في الإفصاح عن همومها وعواطفها وأحاسيسها، بحيث إن جزءاً كبيراً من التقدم الذي عرفته قضية المرأة في القرن العشرين تعتبر السينما مسؤولة عنه.
وجورج كيوكور كان، في معظم أفلامه، واحداً من كبار المخرجين، الذين انكبوا على هذا الأمر منذ أفلامه الأولى حتى آخر فيلم حققه. أفلامه الأولى حققها جورج كيوكور عند بداية سنوات الثلاثين، بعد أن عمل فترة كاتب سيناريو وحوار، هو الذي كان ولد في نيويورك عام 1899 متشرباً الثقافة الأوروبية، ومطلاً على وعيه للعالم في تلك المدينة التي كانت تعيش أولى انطلاقاتها الثقافية في ذلك الحين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحال أن ما قاد كيوكور إلى السينما كان المسرح الذي أولع به منذ صغره، والأدب الروائي الذي راح يلتهمه التهاماً. لهذا لم يكن من قبيل الصدفة أن يحضر المسرح والرواية في القسم الأكبر من أفلامه، بدءاً باقتباساته من شكسبير ("روميو وجولييت" و"عطيل")، وصولاً إلى اقتباس سامرست موم ("أفضل ما عندنا") وجورج برنارد شو (مسرحية "بيغماليون" في "سيدتي الحسناء" الذي كان من أشهر ما حققه كيوكور خلال المرحلة الأخيرة من حياته)، وأوسكار وايلد ("مروحة الليدي وندرمير").
وفي هذا المجال نفسه نذكر كيف اقتبس كيوكور كذلك روايات تشارلز ديكنز وألكسندر دوماس الابن ("غادة الكاميليا" أحد أجمل أفلام كيوكور من تمثيل غريتا غاربو بعنوان "رواية مرغريت غوتييه" وكان واحداً من أفلامه المبكرة)، ثم خصوصاً "نساء صغيرات" تلك الرواية التي لم يخفِ سروره طوال حياته كونه حققها.
إذن، مهما كانت الأصول التي اقتبس منها كيوكور أفلامه، فإن القاسم المشترك بينها جميعاً كان تركيزه على الأدوار النسائية فيها، ولعل هذا ما جعله يشتهر بشكل خاص بكونه "أفضل مخرج أدار ممثلات كبيرات في أدوار نسائية خالدة". ومن بين الكبيرات اللواتي أدارهن نذكر فيفيان لي، وأوليفيا دي هافيلاند، خصوصاً جودي غارلند (في "مولد نجمة")، وغريتا غاربو، وآفا غاردنر (خصوصاً في فيلم "تقاطع المصائر" عن استقلال الهند)، وأودري هيبورن التي أعطاها في "سيدتي الجميلة" (1964) واحداً من آخر أدوارها الكبيرة، إضافة إلى كاترينا هيبورن.
رحل جورج كيوكور عن عالمنا في عام 1983 في لوس أنجلوس، بعد أن كان حقق واحداً من آخر أفلامه: فيلم "ثريات وشهيرات"، الذي تبدّى وكأنه وصيته الأخيرة، وفعل إيمان بالمرأة يقف إلى جانبها، رغم خيباتها وأحزانها، واكتشافها في نهاية الأمر أنها إنما أخفقت في كل ما سعت إليه.
وعندما رحل جورج كيوكور تبدّى للكثيرين، وكأنّ حقبة بأسرها من تاريخ السينما قد رحل، وهي حقبة العصر الذهبي الذي كان الفيلم يقاس فيها بعظمة الأدوار التي تعطى فيه إلى ممثلين يجسِّدون على الشاشة جملة عواطف وأحاسيس، ربما كانت هي من آخر علامات الإنسانية في سينما هوليوودية، لم تكفِ منذ ذلك الحين عن محو الأحاسيس، وتحويل الفيلم من محطة للعواطف والقلوب، إلى مجموعة أحداث متتابعة لا تكفّ عن تعرية المجتمعات، وتأكيد أن الإنسان الفرد وعواطفه آخر ما يهم هذه المجتمعات.
والحال، أن سينما جورج كيوكور كانت، بامتياز، السينما التي تركِّز على ذلك الفرد وإنسانيته، لا سيما على فردية المرأة وإنسانيتها.