يُعدّ العرب مهبط الوحي السماوي، وحملوا رسالة الإسلام التي بسطوها في مشارق الأرض ومغاربها، وبالقدر الذي يحث فيه الدين الجديد على التوحيد والعبادة وجدال الأديان الأخرى بالحُسنى، فإنه يحثهم أيضاً على التأمل والتفكر وطلب العلم والمعرفة، فالأمة مهما كانت تتمتع بمميزات دينية والتزامات روحية، بيد أنها لا تصل إلى مستوى حضاري راقٍ من دون الاحتكاك والإطلاع على ثقافات وعقليات الأمم المتقدمة عليها مدنياً وحضارياً، إذ إن عملية التطوّر الإنساني هي نتاج تمازج وتلاقح لأفكار وفلسفات وعلوم وآداب وفنون بين مختلف الأمم والشعوب.
امتدت الفتوحات العربية الإسلامية إلى حدود الصين شرقاً وأرمينيا شمالاً وإسبانيا غرباً، إذ انتصر العرب بأكثر من مئة معركة خلال قرن واحد من الزمن، وكانت اللغة العربية على مدى أربعة قرون هي لغة الدولة الرسمية لجميع تلك الشعوب والمناطق التي دخلت في الإسلام، ومن خلال هذا التلاقح المتنوع انفردت الحضارة العربية الإسلامية بطابعها الخاص، فقد حافظت على عقيدتها الدينية وقدمت للإنسانية حضارة إسلامية مميّزة.
وفي مراحل البناء والتطوّر الحضاري، لعبت الترجمة دوراً بارزاً ومهماً، خصوصاً في العصر العباسي الأول (132-232 هـ/750-847 م)، إذ صارت حركة الترجمة ذات شكل رسمي مدعوم بسخاء من الدولة، وضمن كيان أكاديمي عالمي تَمَثل في "بيت الحكمة"، الذي أسسه هارون الرشيد (149-193 هـ/763-809 م) في بغداد، ووصل إلى ذروته في عهد ابنه المأمون (170-218 هـ/786-833 م)، حيث جمع فيه عشرات المترجمين من بلدان عدة ليعملوا ضمن جامعة علمية كبرى. ويُعدّ أبو جعفر المنصور (95-158 هـ/714-775 م) الممهد الأول إلى "خزائن الكُتب".
وعن "بيت الحكمة" كتب ابن خلدون: "إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه والتي تشبه في أسبابها، وهي انتشار التجارة وإعادة كشف كنوز اليونان وفي نتائجها وهي ازدهار العلوم والفنون".
وليس من المبالغة إن قلنا إن الحضارة العربية الإسلامية لم يكن لها نظير في العصر الأوروبي الحديث، ولا في عصرها التقني والنووي المتقدم. إذ بشكل عام لا تزال أوروبا الحديثة تطمس حقائق نهضتها التي قامت على علوم وحضارة العرب الإسلامية. فأغلب البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية عندما تنتقل تاريخياً من العصر الحديث تتجه بسرعة صوب العصر القديم، من دون إعطاء الوزن الحقيقي والمؤثر لفترة الحضارة العربية الإسلامية، بل إن حضارة الغرب المعاصرة، وباعتراف رهط من مفكريها، تتمحور حول ذاتها بشكل سلبي، فلا ترى في تواريخ العالم إلا ما قد وصل إليه الغرب من رقي وتقدم.
على أي حال، فإن تناول حركة الترجمة والنقل والأبعاد التي أدتها في النمو الحضاري عند العرب المسلمين، يمكن أن يوضع وفقاً إلى الفقرات الآتية:
أولاً: أسباب الترجمة
من بين أهم الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تفعيل حركة الترجمة في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، كان سبباً خارجياً غير مباشر، وآخر داخلي مباشر. فالأول كان نتيجة وجود المدارس القديمة التي تمثل عصر ازدهار الثقافة اليونانية من جهة، ودَوْر السريان (معظمهم نصارى نساطرة ويعاقبة وقلة من اليهود) الذين يمثلون حلقة الوصل بين العرب وبين لغة اليونان من جهة أخرى. لقد كانت اللغة اليونانية شائعة التناول في مدارس السريان، وعندما فتح عرب الجزيرة المسلمون بلدان عرب الشمال: العراق والشام ومصر، واحتكاكهم بثقافات تلك المدارس المسيحية، طلبوا من السريان أن ينقلوا التراث العلمي والفكري اليوناني إلى اللغة العربية.
وهناك بضع مدارس كانت تتصدر مستوى التعليم لفترات زمنية طويلة، سنقوم بسردها بحسب تسلسلها الزمني، كون بعضها قد تأسس نتيجة انتقال كبار معلميها من مكان إلى آخر.
1- مدرسة الإسكندرية: وهي معقل "الأفلاطونية المحدثة" التي تعود إلى مؤسسها فيلون الإسكندري (20 ق.م- 50 م)، ولقد سار على نهجه إنكلمندس الإسكندري (150-211)، ثم أفلوطين (204-270)، إذ تميّزت بالتوفيق بين الفكر اليوناني والفكر الديني، ومن آباء هذه المدرسة أيضاً: أقليمس الأسكندري وأوريجانيس وأثناسيويس وغيرهم؛ ولقد أخذ منها العرب الفلسفة الإشراقية.
2- مدرسة الرها: يرجع تأسيسها إلى القرن الثاني الميلادي، وتُعدّ من أقدم المدارس اللاهوتية المسيحية، ومن كبار معلميها وقتذاك: ططيانس (ت 170)، وبرديصان (ت 222). ولقد نالت رعاية مار أفريم السرياني (ت 375) قبل سقوط مدينة الرها بيد الفرس الساسانيين عام 363، حيث كانت ضمن حدود الدولة البيزنطية التي تقع شمال العراق، وتم إغلاقها بأمر إمبراطور القسطنطينية زينون (474-491) في عام 489، نتيجة تصاعد الاختلافات والمشاحنات الداخلية حول إتّباع النهج الإسكندراني أو الأنطاكي، كانت لغة التعليم فيها سريانية ويونانية، وفيها نُقلت بعض مؤلفات أرسطو إلى السريانية.
3- مدرسة أنطاكية: يعود تأسيسها إلى أواخر القرن الثالث الميلادي في بلاد الشام، ولقد تميّزت بالفكر الأفلاطوني المحدث، كانت لغة التعليم فيها اليونانية والسريانية، ومن أشهر آبائها: لوقيانس وبولص السميساطي وديودورس وآخرون غيرهم.
3- مدرسة نصبين: وتأسست عام 320 بفضل الأسقف يعقوب أفراهاط، وتقع ضمن حدود الدولة البيزنطية، شمال سوريا، كانت لغة التعليم فيها سريانية، تختص بعلوم: اللاهوت والفلسفة والطب؛ واستمرت بالتدريس حتى القرن السابع الميلادي.
4- مدرسة قنسرين: ويعود تأسيسها إلى القرن السادس الميلادي في جنوب حلب، لكنها وصلت إلى أوج ازدهارها في القرن السابع، كونها كانت مركزاً مهماً للدراسات اليونانية: الأدب واللغة والفلسفة والمنطق والطبيعة واللاهوت والفقه، وكان التعليم فيها باللغتين السريانية واليونانية، ولقد نافست مدرستي الرها ونصبين، واستمرت تحت الحُكم الإسلامي حتى القرن التاسع الميلادي.
5- مدرسة جنديسابور: ولقد أسسها كسرى الأول أنو شروان (531-567) الذي كان معجباً بثقافة اليونان والرومان، ولذلك استقبل واستقطب الفلاسفة عندما أغلق الامبراطور الروماني جو ستينيان الأول مدارس أثينا الوثنية عام 528. وعلى الرغم من أن جنديسابور في الأحواز كانت في بدايتها مستشفى وتُدرّس الطب، لكنها أصبحت أيضاً من أهم المدارس الفكرية، وكانت لغات التعليم فيها تضم الفارسية والسريانية والهندية، واستمرت بالتواصل في العهد الإسلامي.
6- مدرسة حرّان: تأسست في القرن السابع الميلادي، بعد فترة من إغلاق مدرسة أثينا الفلسفية، وتميّزت بالعلوم الرياضية والفلكية، إضافة إلى الإفلاطونية المحدثة، وكانت لغة التعليم فيها السريانية، واستمرت بنهجها الأكاديمي في ظل الإسلام.
أمّا عن السبب الثاني، المباشر، الذي دفع بالعرب المسلمين إلى نقل كُتب العلوم والفلسفة والمنطق والآداب إلى لغتهم، فإنه يرتبط بواقع الفتوحات المتوالية والسريعة، ما جعلهم يراعون أهمية الأوضاع الجديدة ومنها:
1- حاجة العرب إلى العلوم والمعارف، فالإسلام قد خلق مجتمعاً جديداً، له عقليته ونمط تفكيره الحياتي الذي نقل عرب الجزيرة إلى مستوى مدني يتطلب منهم التوجه نحو آفاق ومصادر حضارية متقدمة.
2- الوضع المستقر والرفاه المعيشي، إذ إن المجد العسكري والسياسي والاقتصادي الذي شيده العرب المسلمون لا يكتمل إلا بالمجد العلمي والفكري والثقافي.
3- لغة القرآن، فبعد الفتوحات انتشرت اللغة العربية في جميع البلدان الإسلامية، كونها لغة النظام السياسي الرسمي للدولة، ومن بين ما يمتاز به القرآن هو حث المسلمين على البحث والتفكير، وفي مدح العلم ومنزلة العلماء.
4- حاجة العرب إلى فكر نظري حرّ، إذ إن الفِرق والملل الدينية قد كثرت وتعددت بين المسلمين، وازداد الجدل في ما بينها، ما أوجب على علماء الكلام أن يطلعوا على نظريات الفكر اليوناني لكي يتمكنوا من الرد العقلي والمنطقي على المغالين والمتشددين في الدين.
5- نفوذ المثقفين الأعاجم، فقد تأثر العرب ببعض المفكرين والأعلام من الأعاجم، خصوصاً من الذين نقلوا وترجموا روائع تراثهم إلى اللغة العربية.
6- اهتمام الخلفاء بالعلم والمعرفة، إذ لم يكن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لمجرد قيادة دولة المسلمين، بل كان أيضاً انتقالاً إلى عقلية حضارية راقية، وكان المنصور والرشيد والمأمون من أكثر الخلفاء تشجيعاً لنشر العلم والمعرفة، والخليفة المأمون نفسه كان عالماً؛ حتى في انتصاره على ملك الروم تيوفيلوس، كان من بين شروطه لوقف القتال الحصول على كُتب الفلسفة والعلوم كجزء أساسي من غنائم الحرب. وكذلك بالنسبة إلى حاكم قبرص عندما طلب الهدنة، فقد فرض عليه المأمون أن يسلم "خزانة كُتب اليونان"، كما ذكر ابن النديم في "الفهرست".
7- التيار الشعوبي الفارسي، بعد اشتداد التنافس بين العرب والشعوبيين من الفرس الذين ترجموا تراثهم بغية إبراز آدابهم القومية الممتدة إلى ما قبل الإسلام، وذلك من أجل المفاخرة، عبدالله بن المقفع (106-142هـ/724-759 م) نموذجاً، فقد ترجم كتاب "كليلة ودمنة" من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية.