"اختفاء الماضي نعالجهُ بسهولة، إنما اختفاء المستقبل لا يمكن إصلاحه"، أمين معلوف.
طول الخيط!
عشت عمري، يتلبّس عيني وعقلي وحتى وجداني، لباس "الأزمة"، ذلك المصطلح الذي يتكرّر، ويُعاد عجنه في كل مبحث، وعند التعليق على ما حدث وما يحدث، من أزمة العقل العربي إلى البترول... وهلمّ، من أزمات باتت أوكسجين كل مسألة. من نكبة إلى نكسة، ومن ربيع إلى خريف، كلما قرأت دراسة في شأن عربي، أجد أن من لزوم ما يلزم، اصطلاح "الأزمة" القرين لشأن المبحث، ولا اعتراض لي على هذا ولا ذاك، لكنني كنت دائم التساؤل، عن هذا الاقتران، عن مبعثه، عن حيثياته، عن تكراره الذي لا يُعلّل.
والأزمة ليست أمراً يحتاج إلى الإشارة إليه فحسب، بل تقدم فترات الأزمة مناسبات مفيدة لفهم كيفية تجميع وإعادة تنظيم هذه العوالم، فغالباً ما يكون الإعلان عن أزمة، محاولةً لإدخال قوى جديدة، أو تحديد مخاطر يجب اتخاذ قرارات بشأنها، وهي تتطّلب أيضاً تحديد الموضوع أو الموضوعات المجمَعة المعرضَة للخطر. وقد تفلت القوى المدخلة، والمخاطر المحددة والموضوعات المجمعة كلها، من سيطرة مَن يحاولون تعبئتها أو السيطرة عليها (كما يوضح تيموثي متشيل في كتابه "ديمقراطية الكربون"، السلطة السياسية في عصر النفط (ترجمة بشير السباعي وشريف يونس – ط (1) المركز القومي للترجمة – القاهرة – 2014).
هذا التكرار دال على الانفلات، فما يُستعاد هو الأزمة، وهذا الرصد هو عملية توصيف للحاصل. وإذا ما كان الباحث يعيد ويكرّر ما يرصد، فإن هذا ينبهنا ليس إلى عجزه فحسب، بل وإلى الانسداد الحاصل في الواقعة المدروسة. فإذا كانت الأزمة مخاطر يجب اتخاذ قرارات حيالها، ثم تتكرّر من دون أي قرار، ومن دون دخول قوة جديدة تساهم في الخروج منها، فهذا مؤشر ساطع إلى غياب البديل لما يتكرّر. والبحث عندئذٍ، يجب ألا يتم في تكرار الحالة، ولا حتى في الانسداد البيّن، لكن يجب البحث عن مسبّبات ودوافع غياب البديل، أي دراسة الغائب في الحالة، وليس معطى الحاضر والجليّ، وثمة أزمات تتكرر، وثمة بلدان تعيش حالة الانسداد منذ فترة طويلة، وليس ثمة في الأفق، من حل غير ما سمّيته اللاحل.
ضياع الإبرة
نجد على طاولة الأحداث، لبنان وعلى شاكلته ليبيا، وهما بلدان يتشابهان كثيراً كما يختلفان، لكن قاعدة مثلّث برمودا المشتركة بينهما، الجغرافيا التي تجعل من البلدين في التاريخ، في الآن وهنا. وحين تكون الجغرافيا الفيصل والحكم، تجعل من البلاد أبواباً مشرعة، جاذبة وطاردة في الآن. ويكون الخارج، الفاعل في المسألة الداخلية، وفي هكذا حال كأنما البلاد على قرن ثور، وهذا المعطى يشلّ أو يربك القوى الداخلية، التي تتوزّع كقوى جهوية أو أيديولوجية، تجد مغريات كثيرة تأتيها من الخارج الفاعل. إذاً يبدو كأن ميزة كهذه تربك الفعل في الداخل وترهنه للخارج.
وكنت رصدت في مقالة سابقة، هذا التداخل بين البلدين، اللذين ما يتكرر فيهما ليس له بديل حتى الآن: أثناء الحربِ الأهليةِ اللبنانية، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الـ 20، علّق كسينجر وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، أن "لبنان دولة فائضة"، والوشائج بين لبنان وليبيا، جعلت التدخل الأجنبي في البلدين لاعباً رئيساً، كما اللاعب الداخلي.
وكان المُتدخّل الرئيس، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة، التي اختزل وزير خارجيتها الأشهر، المسألة اللبنانية في حال "الفيوض"، التي تعدّ حالة شائكة ومربكة، هكذا الدولة الكبرى، في العصر الحديث، تُشخّص المسألة، في أن دولة ما زائدة عن الحاجة، السؤال الذي يُطرح فعلاً: ماذا يمكن أن نفعل بما هو فائض؟
حتى الآن ومنذ عقود، المسألة اللبنانية على الطاولة، تبدو كما لو أنها ملعب لقضايا الإقليم في شرق المتوسط، فهل ليبيا كذلك في الشمال الأفريقي؟
كل ما يتمظهر في المرآة يعني المشاكلة، مع فارق أن الدور الليبي في خريطة الطريق الأميركية، دور مَن هو خارج التاريخ والجغرافيا، السنيد المشاغب، الذي يظهر بين الحين والآخر، ليخلط الأوراق، والبلاد التي تؤوي "الإخوان المسلمين" الهاربين من مصر نهاية الأربعينيات، و(أحمد) "بن بِلا" (أول رؤساء الجزائر بعد الاستقلال) وجيش تحرير الجزائر في الخمسينيات، و"كارلوس" و"عيدي أمين"، والجيش الإيرلندي، والساندنيستا في السبعينيات، والآن من كل الملل والنحل.
ما يتمشهد في الشمال الأفريقي، هو تحويل ليبيا على مر العقود كـ "وكر للشيطان"، في الوقت ذاته الذي يكون التدخل الأجنبي، صاحب الدور الرئيس، وعليه كما يبدو، نحن لن نخرج من هذا المأزق، ما لم نُقرّ بأننا "فائض قيمة"، عند من تُخوّل لهم القوة، لعب الدور الرئيس.