أهل السلطة في لبنان منشغلون بثلاث قضايا: مكافحة الفساد، مؤتمر "سيدر"، وعودة النازحين السوريين. لكن الإنشغال ليس بوليصة ضمان للشغل الفعلي. فالقضايا مترابطة: مكافحة الفساد هي، في جانب منها، جزء من الشروط والإصلاحات المطلوبة للحصول على مليارات الدولارات المرصودة في مؤتمر "سيدر" للاستثمار في لائحة من 250 مشروعاً في لبنان. وفي أبواب الاستثمار أشياء لها علاقة بتوفير فرص عمل للنازحين الى جانب اللبنانيين،
بحيث تخف عنهم وعن لبنان أعباء الإقامة في انتظار "العودة الآمنة الكريمة". وحول كل قضية خلافات من ضمن الإجماع المعلن على اعطائها أولوية. وهي خلافات مرتبطة بمواقف داخلية مفتوحة على مواقف خارجية.
في مكافحة الفساد مباراة بين الجميع، بحيث يصح القول انه لا صوت يعلو على صوت الدعوات الى التشدد في الحرب على الفساد. رئيس الجمهورية ميشال عون يربط نجاح عهده وانقاذ البلد بالنجاح في المكافحة.
ويحدّد موعداً للنجاح عشية رمضان. رئيس المجلس النيابي نبيه بري يرى ان بداية المكافحة هي تطبيق القانون، ويتحدث عن 39 قانوناً لم يُطبّق. رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري يلتزم الحرب على الفساد في البيان الوزاري وامام مؤتمر "سيدر". السيد حسن نصرالله يصف مكافحة الفساد بأنها "معركة مقدسة". وليس بين الوزراء والنواب وقادة الأحزاب والنقابات ونشطاء المجتمع المدني من تأخر في الحماسة لمكافحة الفساد.
لكن أكثر ما ينطبق علينا هو القصة المشهورة عن بطرس الأكبر الرؤيوي والمصلح في الامبراطورية الروسية. اذ أراد القيصر اصدار قانون يحكم بالشنق على كل من يسرق ما يساوي ثمن الحبل. وكان رد أقرب الناس اليه هو: "هل تريد التخلي عن جميع مساعديك وتبقى وحيداً؟"
ذلك ان البداية أثارت عاصفة: "تسييس" الحرب على الفساد بدل محاربة الفساد السياسي. والفارق كبير بينهما. تسييس الحرب يعني الانتقائية وتوجيه الإتهامات الى الخصوم فقط، بحيث تأخذ المسألة طابع اللعبة الطائفية والمذهبية، وتستدعي الحمايات والخطوط الحمر. ومحاربة الفساد السياسي هي اساس أي حرب على الفساد، لأن الفساد الكبير هو الذي يقوم به النافذون أو يحميه هؤلاء، ويبدو كأنه ضمن "القانون" فلا نجاح لمحاربة الفساد إلا في دولة حق وقانون، وبالتالي فان بناء هذه الدولة هو المحطة الإجبارية لمحاربة الفساد. وأية محاربة في اللادولة وعلى أيدي الدويلات تنتهي بمحاسبة عدد من صغار المرتشين الذين لا حماية سياسية أو مذهبية لهم، وتكرس الفساد كمنهج حياة في النظام الطائفي.
وفي تعهدات مؤتمر "سيدر"، فان الخلاف يبدأ من الأساس بين فريقين: واحد يرى ان التعهدات هي نافذة الفرصة الوحيدة المفتوحة لانقاذ الاقتصاد، ويراهن على الغرب والعرب للاستثمار المفيد في الوطن الصغير.
وآخر يعتبر ان كل ما يأتي من الغرب الاميركي والاوروبي "مؤامرة". ويقول ان ما يحتاجه لبنان هو سياسة ضريبية عادلة واقتصاد منتج وإنصاف في توزيع الثروة والأعباء، وليس الاقتصاد "النيو ليبرالي المتوحش" لمصلحة الاحتكار الخارجي والوكلاء المحليين.
وفي موضوع النازحين السوريين، فأن الديماغوجية تلعب دوراً كبيراً بصرف النظر عن كون لبنان متعباً بالفعل من حمل أعباء نازحين يشكلون ثلث عدد سكانه، سواء في البنية التحتية والتعليم والاستشفاء أو في المخاطر الأمنية والإجتماعية والديموغرافية. ففي مؤتمر "بروكسيل 3" لـ "دعم مستقبل سوريا والمنطقة" عرض الرئيس الحريري الموقف اللبناني في إطار ما جاء في البيان الوزاري وبالتفاهم مع الرئيس عون، وحصل على تعهدات بنحو ملياري دولار كحصة للبنان.
لكن ما طغى على النقاش هو الجدل حول ذهاب أو عدم ذهاب وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب ضمن الوفد الرسمي. ثم ذهب وزير الخارجية جبران باسيل الى حدّ القول انه رفض المشاركة في المؤتمر لأن هذه المؤتمرات تعمل لتمويل إبقاء النازحين حيث هم، بدل ان تموّل عودتهم الى بلدهم.
والنقاش يدور حول موقفين: موقف الداعين وفي مقدمهم الرئيس عون الى عودة النازحين بالتنسيق مع دمشق من دون انتظار التسوية السياسية، لمواجهة "سياسات" توطين "النازحين.
وموقف الداعين الى العمل مع المجتمع الدولي لضمان العودة على اساس ان الاستهتار بالمجتمع الدولي ليس في مصلحة البلد، وان كان ذلك المجتمع يربط العودة بالتسوية السياسية ويشترط التسوية للمساهمة في اعادة الإعمار.
وكله نقاش نظري. والسؤال هو: هل يريد النظام بالفعل عودة النازحين الذين يقول الرئيس بشار الأسد ان الدول المضيفة تمنع عودتهم؟ كيف يمكن تصور بلد مأزوم مثل لبنان يريد ابقاء النازحين فيه؟ وما الذي يمنع النظام وحلفاءه اللبنانيين من إعادتهم على افتراض ان المجتمع الدولي يرفض ذلك؟
الواقع ان المعادلة، وحتى اشعار آخر، هي: لا تسوية سياسية، ولا عودة نازحين. والمخيف أكثر ان لبنان المثقل بالأزمات يذهب الى تعميق الخلافات بدل ان يطبق الخلاصة التي توصل اليها من خبرته "مهندس" الاتحاد الاوروبي جان مونيه، وهي "ان الأزمات أعظم موحّد".