نجا الروائي والمناضل الفلسطيني عاطف أبو سيف مرات عدة من الاعتداءات الإسرائيلية، قصفاً وإطلاق رصاص، لكنه لم ينجُ من اعتداء "ذوي القربى" في غزة، التي ولد في مخيمها الشهير جباليا. وأياً يكن هؤلاء "الأقارب"، متطرفين أو أصوليين أو "حماسيين"، فالاعتداء العنيف الذي تعرض له وأصابه بجروح بالغة وكسور، وكاد أن يقضي عليه لو لم ينقل سريعاً إلى أحد مستشفيات رام الله، يفوق اعتداء العدو ليس بصلافته وقسوته فقط، بل بما ينمّ عن حقد وكراهية لا حدّ لهما، وكأن صاحب "حياة معلقة" رجل غريب، إسرائيلي أو صهيوني أو إرهابي. وقد يعبّر هذا الاعتداء عن الدرك الذي بلغه هؤلاء "الفعلة" الذين تنصّلت منهم حركة "حماس" مستنكرة على طريقتها، والذين يمثلون حتماً جهات "ظلامية" مريضة تنهش البيئة الغزاوية.
وإن بدا ممكناً تفسير هذا الاعتداء سياسياً، تبعاً لانتماء عاطف أبو سيف إلى حركة فتح، أو عقائدياً نظراً إلى موقفه السلبي من "حماس" ومن مصادرتها قطاع غزة بالقوة، أو أصولياً جراء نزعته العلمانية ودعوته إلى الحوار والتوافق، فمن المستحيل تفسيره فلسطينياً وإنسانياً وأهلياً، لا سيما في ما حمل من نيات شريرة تعلن ولا تضمر، فعل الإلغاء والقتل. ليس "المعتدون" جاهلين أو متهوّرين أو ساذجين، بل هم يعرفون جيداً هذا الكاتب والمناضل الذي اعتدوا عليه، وربما قرأوا ويقرأون مقالاته الجريئة لا سيما عن غزة و"حماس"، ورواياته التي تتناول البيئة الغزاوية في تحولاتها العميقة ومعاناة ناسها الذين يعيشون مأساة داخلية تشبه مأساة الخارج الإسرائيلي. لم يتعرضوا له مصادفة أو بالخطأ، قصدوه وضربوه بل أشبعوه ضرباً بالعصي وقضبان الحديد، انقضوا عليه بلا رحمة، انقضاضهم على مجرم إسرائيلي. لقد أدوا واجبهم الذي تفرضه عليهم "القضية" التي فقدت بوصلتها وسقطت في المتاهة الأهلية.
كتب عاطف أبو سيف مرة مقالاً بديعاً عنوانه "مع غزة وضد غزة" استعرض فيه تاريخ القطاع والمدينة، وتوقف عند المقاومة الفلسطينية التي ولدت باكراً في غزة، والروح الوطنية التي طالما شغلت أهلها. ويستعيد جملة شهيرة لأحد جنرالات الاحتلال في السبعينيات يقول فيها: "نحكم غزة في النهار ويحكمها الفدائيون في الليل". كتب أبو سيف يقول في مقاله ذاك: "أنا مع غزة التي لم تشتكِ يوماً ضيق الحال ولا قسوة الجلاد ولا إهمال الأهل وذوي القربى... غزة التي هي المكان المرغوب في الوعي الجماعي، القادر دائماً على أن يعيد إنتاج الحكاية...". لكنه لا يلبث أن يجاهر بأنه ليس مع غزة التي أرادوا أن يجعلوها "كياناً يختلف عن بقية الكيانات الفلسطينية"، أو أن يريدوا أن "تكون كل فلسطين، وأن تختصر القضية في نفسها". ويعرب عن خشيته أن يأتي يوم يُطرح فيه سؤال أليم: "هل باتت غزة هي الوطن؟". طبعاً مثل هذه الآراء والمواقف الوطنية لا ترضي الجهات الأصولية ولا الحركات الانفصالية، بل هي تزعجها وتثير حفيظتها.
راج اسم عاطف أبو سيف عندما وصلت روايته البديعة "حياة معلقة" إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية في العام 2015. وكان حينذاك يستحق الجائزة الأولى فعلاً، فالرواية هذه، نجحت أولاً في ترسيخ لعبة سردية متطورة قائمة على وعي فني وتقني عال، وثانياً في النفاذ إلى عمق القضية الفلسطينية انطلاقاً من معطيات غير مألوفة ومن وقائع يومية ورؤى وجودية، علاوة على اللغة المتينة التي تميزت بها. تحفل الرواية بشخصيات وأحداث تتوزع في غزة ومدن فلسطينية أخرى منها يافا، وتدور حول وقيعة رمزية تتمثل في موت "نعيم"، صاحب المطبعة الوحيدة في المخيم، وهو الذي كان يتولى طبع ملصقات المقاومة وصور الأبطال الذين يسقطون في المعارك دفاعاً عن القضية. عندما يسقط "نعيم" برصاص الإسرائيليين يرفض ابنه "سليم" أن يطبع له ملصقاً مع صورة، فيدور هنا نقاش حول مفهوم البطولة والنضال، وحول مبدأ قبول الحياة أو رفضها. وتبرز وقيعة أخرى هي وقيعة البيت الذي بناه "نعيم" على إحدى التلال والذي تسعى السلطة إلى هدمه لبناء مسجد ومخفر محله. لكنّ المواطنين الذين يتمسّكون بالتلة التي لها مكانة خاصة في وجدانهم العام، يعارضون المشروع ويصطدمون مع الشرطة. والتلة رمز من رموز فلسطين الداخل التي تشهد بدورها تحولات في المكان والذاكرة. غير أن الروائي يدخل الحياة اليومية التي تعيشها غزة، بهمومها وشجونها وتناقضاتها، ويلقي أضواء على جوانب منها خفية أو مجهولة.
في السادسة والأربعين من عمره، يحتل عاطف أبو سيف مكانة بارزة في الحركة الروائية العربية الشابة أو الجديدة، وأسهم في تأسيس رواية فلسطينية تتفرد في مقاربتها القضية مقاربة سياسية ووجودية غير معهودة. يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية، وله روايات عدة ومسرحيات ومجموعة قصصية، ومن رواياته: ظلال في الذاكرة (1987)، حكاية ليلة سامر (2000)، كرة الثلج (2001)، حصرم الجنة (2003)، الحاجة كريستينا (2016).