المسألة في غاية الجدية. هذه الصرخات المدوية التي تصدح في الأفق تكلف الصارخ ما لا يقل عن عشرة دولارات في الدقيقتين. وهذه الفزعة التي تعصف بالناظرين وتسارع دقات القلوب حتى تكاد تقفز من بين الصدور يستغرق الوصول إليها نصف ساعة ويزيد في طابور الانتظار. حتى الساعة التي تمضيها تائهاً في دهاليز لا أول لها أو آخر تكلفك الكثير من البحث والتفكير والتحليل. ليس هذا فقط، بل الدقائق التي تمضيها وأنت في كامل وعيك متقمصاً دور فأر وتتحدث إلى بطة ترتدي نظارة طبية أو كلب يشكو لك حبه أو أميرة تحكي لك كيف نامت مئة عام قبل أن يوقظها المدعو فيليب تظل محفورة في ذاكرتك، لأسباب عدة بعضها يتعلق بالتجربة المثيرة والبعض الآخر يتعلق بالتجربة الأليمة التي أحدثت فجوة عميقة في حساباتك البنكية وميزانياتك المستقبلية.
لم يحضر أحد
المستقبل الذي خطط له مؤسسو "ديزني لاند" التي فتحت أبوابها أمام الجمهور في كاليفورنيا في مثل هذا اليوم قبل 65 عاماً لم يحتوِ على أية احتمالات أو تلميحات بأن أم المدن الترفيهية في العالم قد تستيقظ ذات صباح لتجد صناعة الترفيه التي حققت لها بضعة تريليونات أو كوادريليونات وقد رفعت راية "لم يحضر أحد".
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، احتفل منتجع والت ديزني الأشهر في العالم في كاليفورنيا بمسيرة أطلق عليها اسم أسعد مسيرة في العالم". 64 شخصية من أحب شخصيات والت ديزني إلى الكبار قبل الصغار شاركت في المسيرة التي شاهدها الآلاف من زوار المنتجع في "ماين ستريت" الشهير. وتبعت المسيرة المبهجة العشرات من الفعاليات الاحتفالية التي ظنت الملايين من محبي المنتجع الترفيهي أنها ستشهد مثيلتها بعد عام بالتمام والكمال.
لكن بعد عام بالتمام والكمال، تجد ديزني لاند الأم ومعها حفنة من منتجعات ديزني الترفيهية حول العالم والآلاف من الحدائق والملاهي والأماكن الترفيهية في مهب رياح كورونا. هذه الأيام تقفز إلى صدارة نشرات الأخبار أنباء عن افتتاح أحد منتجعات ديزني ثم إعادة إغلاقها، أو إعادة افتتاح بالغة المحدودية، أو افتتاح ولكن مع شرط التباعد واقتصار الأعداد على ما لا يزيد على عشرة أو 15 في المئة من السعة الأصلية، أو إبقاء الوضع على ما هو عليه من إغلاق خوفاً من استمرار تفشي الفيروس، أو التبنؤات المتواترة بقرب حدوث موجة جديدة.
كمامات برسوم الشخصيات
وإذا كانت احتفالات ديزني هذا العام بعيدها الـ65 تميزها مجموعة المنتجات التي يتم عرضها للبيع في وقت محدد وبأعداد محدودة جداً بغية التيمز والتفرد، فإن "كورونا" تلقي بظلالها بشدة وقوة. أبرز المنتجات الجديدة كمامات وجه تحول مرتديها إلى إحدى شخصيات ديزني. حتى الأماكن القليلة المفتوحة تفسد أجواءها المبهجة ووعودها بالفرحة الغامرة تلك التنويهات التي تقطع الموسيقى المذاعة وتخترق العقول قبل الآذان لتذكر الجميع بأن الجائحة تهدد الكل وأن إجراءات الحماية واحترازات الوقاية مطلوبة في وقت.
الوقت الذي ظهر كتاب "سيكولوجية الترفيه" لعدد كبير من المؤلفين على رأسهم جننيغز براينت وبيتر فوردرر في الولايات المتحدة الأميركية في عام 2013 لم يكن أحد يتخيل أن صناعة الترفيه التي تقدر بنحو تريليون دولار أميركي سنوياً ستتحول إلى صناعة في مهب الريح بعد سبع سنوات. مؤلفو الكتاب اعتبروا أن العصر الحالي هو "عصر الترفيه" بعد أن أيقن خبراء الاقتصاد أن الترفيه أصبح أحد أبرز القوة الدافعة للاقتصاد العالمي الجديد. وخلص الكتاب إلى أن العالم أصبح يأخذ الترفيه على محمل الجد، بعد ما تجلت الجوانب التقليدية والمبتكرة ليؤدي جميعها إلى نتيجة واحدة: كل البشر يحتاجون الترفيه ولا يمكنهم العيش من دونه. ولفت الكتاب إلى مجال حديث نسبياً لكن لم يأخذ حقه بعد من الاهتمام والمتابعة، ألا وهو علم النفس الخاص بالترفيه.
الترفيه احتياج وحق
وعلى الرغم من أن الترفيه غير مدرج ضمن الاحتياجات الرئيسية للإنسان من مأكل ومشرب وتزاوج، أو بين الحقوق الأساسية من تعليم وصحة وسكن، إلا أنه احتياج وحق لا ريب فيهما. وقد عرف الإنسان الترفيه منذ خُلِق، وإن سماه بأسماء مختلفة تخلو من "بارك" أو "لاند" أو "جيم"، لكنها حتماً سرّت عن النفس. العديد من كتابات عالم الآثار المصري الراحل الدكتور عبد الحليم نور الدين تشير إلى أن المصريين القدماء تفننوا في ابتكار العديد من ألوان التسلية لقضاء وقت الفراغ والترفيه عن النفس. ويدل على ذلك الأعياد الكثيرة والأدوات الموسيقية والعزف عليها والغناء والرقص ومباريات الحظ والفكر بالإضافة إلى تخصيص أماكن للعب الأطفال ومتابعتهم.
متابعة تأريخ الترفيه تشير أيضاً إلى أن الحضارات القديمة وشعوب الأرض باختلاف أنواعها وأشكالها عرفت الترفيه عبر سرد الحكايات، وممارسة الألعاب والرياضات، والعروض الفنية من تمثيل وغناء وموسيقى. وقراءة معنى الترفيه تشير إلى أنه النشاط أو الفعل الذي يحظى باهتمام الشخص ويمنحه قدراً من المتعة والبهجة. قد يكون هذا النشاط فكرة أو حدثاً أو حركات يؤديها أو متابعة. وتختلف أنواع الترفيه باختلاف الناس وتراوح اهتماماتهم ورغباتهم.
اقتصاد الترفيه
لكن الرغبة في إنفاق المال من أجل الحصول على قدر من المتعة هي التي ينسب إليها ما طرأ على تلك السمة البشرية التي تحولت إلى قطاع مهم يستوجب تخصيص فرع من علم النفس وفروع وجذور وعلوم وشركات ومراكز جميعها يدور في فلك الاقتصاد. اقتصاد صناعة الترفيه يشير إلى أن إيرادات الملاهي التابعة لديزني وحدها بلغت في عام 2017 وحدها 45.2 مليار دولار أميركي. في ذلك العام الذي شهد تحقيق إيرادات غير مسبوقة، توقع القائمون على صناعة الترفيه أن تصل إيراداته إلى 70.3 مليار دولار محققة نسبة نمو سنوي تقدر بنحو 5.8 في المئة بقدوم عام 2025. لكن لم يكن في الحسبان أن يتعثر الكوكب في عام 2020 في وباء أممي يطيح الصناعة والقائمين عليها وعملاءها من دون أدنى قدرة على التوقع بمستقبل الترفيه القريب أو البعيد.
وبعد أسابيع من الإغلاق طالت أغلب دول العالم بفعل الوباء، راجع البعض ممن ينفقون الكثير على بند الترفيه حساباتهم. ثروت منير (52 سنة) (رجل أعمال) يقول إنه بحسبة بسيطة دفعته إليها أسابيع الحظر والإغلاق وجد أنه أنفق خلال نحو ربع قرن ما لا يقل عن عشرة ملايين جنيه مصري على بند الترفيه. يقول: "كنت أحرص على اصطحاب الأولاد إلى ديزني في كاليفورنيا على مدار أعوام، وبعدها ديزني باريس. وفي السنوات القليلة الماضية وجدنا بدائل في دبي وأبو ظبي حين بدأ الصغار يكبرون، لكن هذا لم يعنِ انتهاء الترفيه بل انتقاله إلى أشكال أخرى أكثر كلفة حيث أضيفت بنود تسوّق الملابس والأدوات التقنية من هواتف محمولة وإكسسواراتها وغيرها. هذا العام يقتصر الترفيه على السفر إلى الساحل الشمالي وهو ليس بالأمر المكلف". يضحك قليلاً ويقول: "على الرغم من خوفي الشديد من الفيروس وخطر الإصابة به، لتمنيت بقاءه لتوفير الأموال المهدرة على الترفيه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إهدار ولملمة جراح
كلمة "إهدار" كلمة جارحة في العيد الـ65 لديزني لاند الأم التي تحاول لملمة ما ضربها هي وأقرانها حول العالم من جراح بفعل الوباء. وقبل أيام، طرحت إحدى أكبر شركات التسويق والترويج للمنتجعات الترفيهية "ثينك ويل" كتيباً إلكترونياً مفصلاً موجهاً للقائمين على الأماكن الترفيهية والثقافية التي اضطرها الوباء لإغلاق أبوابها على مدار الأسابيع الماضية، والتي إما عاودت فتح أبوابها بحذر بالغ أو تستعد لإعادة الفتح درءاً لخطر الإفلاس.
الكتيب عنوانه "التأقلم مع وتحويل خدمات الترفيه التي تعتمد على تواجد الجمهور في عالم ما بعد كوفيد – 19". هل يعود العملاء؟ سؤال لا يعرف إجابته أحد، بمن في ذلك والت ديزني ذات نفسه الذي وافته المنية في عام 1966. ما الإجراءات التي يمكن اتخاذها لجعل العملاء يشعرون بقدر أوفر من الأمان؟ للأسف مهما اتخذت هذه الأماكن من إجراءات سيبقى الناس على هلعهم وخوفهم إلى أن يتغير وضع الوباء. وإذا كانت غالبية الأحوال والأوضاع المفروضة على أغلب المتنزهات الترفيهية ستتغير وفقاً لتغير الوضع الوبائي، ومن ثم هناك القليل فقط الذي يمكن عمله في هذا الشأن، إلا أن الدليل يوضح خمسة مجالات رئيسية يجب تعديلها وإعادة ترتيبها. المجالات الخمسة هي: التواصل مع العملاء قبل وبعد الزيارة، التنظيم والتحكم في التباعد الاجتماعي بين العملاء، كيفية التعامل مع التقنيات التفاعلية في هذه الأماكن والتي تتطلب الملامسة المستمرة، كيفية تجهيز وتدريب أطقم العاملين على النظام الجديد في عصر الترفيه ما بعد كورونا، وأخيراً كيفية جذب العملاء مجدداً إلى المكان عبر عروض مبتكرة.
الابتكار في صناعة الترفيه
وإذا كان الابتكار في صناعة الترفيه في الأحوال العادية أمراً يستغرق جهداً ومالاً وأفكاراً ودراسات، فإنه في زمن كورونا يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. وتكفي عناوين مثل "أكثر مكان مثير للرعب في العالم: سخرية لاذعة لديزني لاند فلوريدا التي فتحت أبوابها في ظل قفزات هائلة لأعداد الإصابة بكورونا" أو "إعادة فتح ديزني لاند: بدء فيلم رعب؟" لتضمن دوران عجلة الرعب.
في الأسبوع الأول من مايو (أيار) الماضي أعلنت شركة والت ديزني أنها تكبدت خسائر تقدر بنحو 1.4 مليار دولار أميركي في الأشهر الثلاثة الأولى من العام بسبب إغلاق منتجعات ديزني وإيقاف إصدارات الأفلام الجديدة ومن ثم توقف إيرادات الإعلانات. بالطبع أنظار ديزني تتجه في هذه الظروف الصعبة نحو الترفيه الرقمي والافتراضي. العام الماضي، دشنت الشركة خدمة بث جديدة اسمها "ديزني +" نجحت في جذب 54.5 مليون مشترك، بينهم أربعة ملايين مشترك انضموا للخدمة الترفيهية بين 4 مايو و8 أبريل (نيسان) الماضيين. وعلى الرغم من ذلك، فإن السؤال المقلق مطروحاً بلا إجابة: كيف ستؤثر كورونا في عالم "الترفيه في الموقع" ؟ location-based entertainment.
أرض الواقع تشير إلى تخفيضات كبيرة في نسب الإنفاق، والتوقف عن دفع رواتب أعداد كبيرة تقدر بنحو مئة ألف موظف أغلبهم في فنادق ومنتجعات ديزني. وإذا كان هناك مجال عمل يمكن تصنيفه بأنه الأكثر قدرة على قياس أثر الوباء ومعرفة ما يمكن أن يؤول إليه عالم الترفيه، فإنه الملاهي والمنتجعات الترفيهية. أما الباحثون عن الترفيه، فسيظلون يبحثون عنه. منهم من يغامر ويتوجه إلى متنزه ترفيهي آملاً في ألا يصييبه الفيروس، ومنهم من يكتفي بالترفيه الرقمي أو الافتراضي لحين إشعار آخر، ومنهم من يترقب الوضع من بعد منتظراً إما نهاية الوباء أو ظهور مفهوم جديد للترفيه، الذي هو سنة الحياة واحتياج رئيسي وحق من حقوق الإنسان.