أزاحت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، الجمعة الماضية، الستار عن تفاصيل مثيرة حول شبكة فساد تغلغلت في وزارة الداخلية السعودية، أدارها أحد مسؤوليها النافذين آنذاك سعد الجبري، الذي تلاحقه السلطات المحلية لتورطه في جرائم أدت إلى تبديد مليارات الدولارات تحت غطاء "صندوق مكافحة الإرهاب".
11 مليار دولار مفقودة
وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن الجبري استغل 11 مليار دولار من إجمالي 19.7 مليار دولار، تدفقت طوال 17 عاماً أشرف خلالها على الصندوق الذي أسسه الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، في إطار سعي البلاد إلى دحر الإرهاب ورأسه الأبرز تنظيم القاعدة، وإبطال عمليات الجماعات المتطرفة باستخدام أحداث التقنيات الأمنية المتوافرة.
الأمر الصادم أن مليارات الدولارات التي اعتبرها السعوديون لدى تلقيهم هذه الأخبار عبر الصحافة المحلية، بأنها توازي ميزانيات وزارات أو نفقات إنشاء مرافق عامة كبرى، "أُنفقت بحسب المعلومات المتداولة بشكل غير صحيح، إذ أنشأ المسؤول المتهم نظاما قائما على ذراعين رئيسين، يمكّنه هو وزملاؤه الاستفادة من الأموال المتدفقة، من خلال رفع رسوم العقود أو تحويلها إلى وجهات أخرى، بما في ذلك حساب مصرفية خارجية يسيطر عليها هو وعائلته وشركاؤه".
شركة تحكم التقنية
الأداة الأولى لشبكة الفساد كانت شركة "تحكم التقنية" التي انطلقت عام 2008، بتمويل وزارة الداخلية السعودية، رغم ملكيتها لشقيق الجبري وابن أخيه واثنين من زملائه المقربين، وفقا لسجلاتها الرسمية.
اشترت الشركة برمجيات وأجهزة من شركات تكنولوجيا أميركية شهيرة منها IBM، Oracle، Cisco Systems، VMware، ثم أعادت بيعها للحكومة بأرباح كبيرة، "واُستخدمت التقنية لبناء قواعد بيانات للبصمات، ومراقبة تويتر تحسبا لتهديدات أمنية محتملة".
وقبل ثماني سنوات، أعلن معهد شركة SAS الأميركية المختص في صناعة التحليلات والبرمجيات عن "شراكة استراتيجية مع الشركة السعودية لتقديم خدمات لوزارة الداخلية، بما في ذلك العمل في كلية لتدريب أجهزة الاستخبارات السعودية".
وفي العام 2013، استثمرت شركة "تحكم التقنية" خمسين مليون دولار بتمويل حكومي في شركة أميركية تسمى Digital Signal Corp، وصفها الجبري بأنها تملك تقنية واعدة للإطاحة بالعناصر الإرهابية في التجمعات، وقال مديرها التنفيذي ديفيد غاتادورو، إن الحكومة السعودية صارت أكبر عملائه، وإن شركة تحكم التقنية تحولت إلى أكبر المستثمرين في الشركة التي يديرها.
انتقل غاتادورو إلى الرياض، حيث اجتمع في كثير من الأحيان مع الجبري، الذي كان يحاول جلب التكنولوجيا المتطورة إلى وزارة الداخلية وفقا لتصريح المدير التنفيذي، الذي ذكر أن أحد الأسباب التي استدعت تأسيس شركة مثل "تحكم التقنية" كان "تسهيل عملية شراء المنتجات الجديدة من دون المرور عبر عملية بيروقراطية بطيئة".
ويكشف أن المناصب القيادية في الشركة السعودية "تبوأها أشخاص مقربين من رجل الأمن السابق لامتلاكهم تجارب عسكرية أو حكومية سابقة أعطتهم مصداقية أثناء التعامل مع بيروقراطيّ الوزارة، مما سهل عملية تبني التقنية الجديدة"، على حد تعبيره.
شركة سكب
الأداة الثانية كانت شركة سكب، التي تلقت أكثر من 26 مليار ريال سعودي (6.9 مليار دولار) خلال الفترة من 2008 إلى 2014، وفقا للحسابات البنكية ووثائق الحوالات التي اطلعت عليها الصحيفة الأميركية.
وبحسب التقرير، فإن "الداخلية السعودية عكفت على تحويل عشرات الملايين من الدولارات بصورة منتظمة لحساب "سكب" في البنك السعودي البريطاني، التابع لمصرف HSBC، ثم تحويله لحساب الشركة الخاص في البنك الأم الواقع في جنيف، حيث ترد المبالغ المالية في حسابات تحمل أسماء مساعدي الجبري".
لكن أكبر التحويلات الشهرية غالبا تصل إلى شركة مسجلة في جزر فيرجن البريطانية (المعروفة بالتعاملات المالية المشبوهة)، تسمى Dreams International Advisory Services، وتظهر وثائق مصرفية بأن الجبري يمتلكها بالكامل.
وتكشف الوثائق أن "سكب دفعت أكثر من 28 مليون دولار في أبريل (نيسان) 2017 للشركة المذكورة آنفا، بالإضافة إلى نحو 15 مليون دولار لأقارب المسؤول السابق، ومازالت أماكن هذه المبالغ أو الأغراض التي استخدمت لأجلها مجهولة".
وبلغت محصلة العمليات التي أجريت تحت غطاء سكب وغيرها من الشركات الممولة من وزارة الداخلية 250 مليون دولار، وفقا للبيانات المصرفية، ومصادر مطلعة على التحقيقات القائمة.
وأشار التقرير إلى أن المحققين السعوديين توصلوا إلى أن الجبري، وشقيقه، واثنين من أبنائه، واثنين من مساعديه، جمعوا بشكل مباشر أكثر من مليار دولار، فيما يتقصون في مصير مليارات الدولارات من تدفقات مالية غير مباشرة وعقود مبطنة.
وأضاف بأن "تلك الترتيبات انتهت عام 2017، عندما أعفي محمد بن نايف من ولاية العهد، وسعى الأمير محمد بن سلمان إلى تفكيك نظام المحسوبية".
وانتقلت ملكية "تحكم التقنية" إلى الصندوق السيادي السعودي، وفقا للموقع الإلكتروني الخاص بالشركة الذي اطلعت "اندبندنت عربية" عليه، حيث تُوصف بأنها "تختص في مجالات الأمن السيبراني والخدمات الرقمية، والبيانات الضخمة، ومنذ تأسيسها عام 2008، تقدم شركة تحكم التقنية المحدودة أفضل حلول لتقنية المعلومات وأحدث الحلول المستندة إلى الطرق والأُطر الرائدة في هذا القطاع".
واكتشف المحققون السعوديون – وفق "وول ستريت جورنال" - أن "وزارة الداخلية دفعت للشركة أكثر من 11 ألف دولار مقابل كل قطعة لامتلاك ألفي هاتف أرضي وهاتف محمول آمن تقدر تكلفته 500 دولار فقط"، وفقاً لمصادر مطلعة على التحقيق، وعلى الرغم من ضخامة المبالغ المدفوعة، فإن الجهات المعنية تخلصت من الأجهزة لأنها لم تعمل بشكل جيد، كما ظهر أن "مساعدي الجبري اختلقوا أوراقاً تفيد بأن الشركة مدينة لهم بقروض بقيمة 30 مليون دولار".
عقارات في أميركا وتركيا
ولم يخلُ فساد سعد الجبري بحسب الصحيفة الأميركية من تعاملات عقارية مشبوهة من ضمنها شراء الشركات التابعة له ولابنه خالد شقة بنتهاوس في بوسطن بمبلغ 3.5 مليون دولار، وأربع وحدات أخرى في المبنى نفسه مقابل مبلغ يتراوح بين 670 ألف دولار وما يزيد على مليون دولار، وفقاً لسجلات رسمية أميركية وإيصالات الإيداع الخاصة بالشركات.
ووفقاً للسجلات الرسمية فإن شركة أسسها المسؤول المتهم وابنه، ويديرها الأخير اشترت شقة بقيمة 4.3 مليون دولار في فندق ماندارين أورينتال، في بوسطن قبل ثلاث سنوات، وأنفقت الشركة هذا العام 13.75 مليون دولار أخرى على شقق في فندق "فور سيزونز"، ويمتلك الجبري أيضاً منازل في تورونتو حيث يقيم حالياً، وفي تركيا كذلك.
وذكرت الصحيفة أن مستشاراً لأسرة الجبري قال إن "الأخير تلقى مكافآت مالية نظير خدمته للملوك وأولياء العهد المتعاقبين" غير أن العلاقة الحالية لا توحي بوئام في الأفق، إذ أصدرت السعودية طلبات وإخطارات للشرطة الدولية بغرض القبض عليه.
ولا توجد إلى وقتنا الحالي تفاصيل رسمية صدرت عن جهاز الرقابة ومكافحة الفساد، ورفض متحدث باسم الحكومة السعودية التعليق على التحقيقات القائمة، أما الجبري فقد امتنع عن الإدلاء بأي تصريحات لـ "وول ستريت جورنال". وأكد مسؤولون حكوميون معنيون إنهم يحاولون تقديمه إلى العدالة في إطار حملة مكافحة الفساد التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وذكرت "وول ستريت جورنال" أن السلطات السعودية احتجزت اثنين من أبناء سعد الجبري للضغط عليه للعودة للبلاد.
موقف كندا
وعلى الرغم من أن الشرطة الدولية "إنتربول"، أزالت إخطارات توقيف الجبري، بحجة أنه كان معارضاً سياسياً، فإن المعلومات الجديدة التي تناقلتها الصحافة الدولية والمحلية كشفت جانباً خفياً من القضية الغامضة، ضمن تفاصيل مثيرة من المتوقع أن تلعب دوراً محورياً في إعادة تعريف شخصية وُصفت بأنها كانت الرجل الثاني في أهم مؤسسات الأمن الداخلي.
ولم يكن رفض كندا تسليم سعد الجبري، تصرفاً مستغرباً في ظل توتر العلاقات الذي تشهده الدولتان بعدها ساءت في عام 2018، إثر تعليق الرياض علاقاتها التجارية والاستثمارية مع كندا، وطرد سفيرها، رداً على ما وصفته الخارجية السعودية بـ "التدخل الفاضح في الشؤون الداخلية"، واعتبرت الانتقادات الواردة على لسان وزيرة الشؤون الخارجية الكندية كريستيا فريلاند، بشأن وضع حقوق الإنسان في البلاد، "غير قائمة على أي معلومات دقيقة أو صحيحة".
وجمّدت السعودية حينها جميع علاقاتها التجارية الجديدة مع كندا، وعلقت رحلاتها الجوية من البلد الأميركي الشمالي وإليه، وأصدرت تعليمات إلى الموظفين ببيع جميع الموجودات الكندية بما في ذلك الأسهم والسندات والنقد، كما اتجهت إلى بيع جميع أصولها الكندية للمستثمرين، وأُمرت الطلاب المبتعثين فيها بالانتقال إلى بلد آخر لإكمال الدراسة.
ويترقب الشارع السعودي بياناً رسمياً حول قضية الجبري المتداولة، من قبل جهاز الرقابة ومكافحة الفساد، الذي بات دوره في الآونة الأخيرة بارزاً من خلال إعلاناته الدورية المفصلة التي تلخص أبرز القضايا التي يباشرها.
ولم يعلق أحد أبناء سعد الجبري، وهو خالد، عبر حسابه في "تويتر" على ما نشرته الصحيفة الأميركية. لكن التفاعل السعودي عبر مواقع التواصل الاجتماعي تجاه الحادثة لا يزال يسير بوتيرة متسارعة.
الخبر مترجم من "وول ستريت جورنال الأميركية" مع إعادة تحريره