"كل شيء هادئ في القاهرة"، رواية ، (الدار المصرية اللبنانية) ، تدور حول صحافي شاب (لا نعرف له اسماً، ربما لكونه حالة أكثر منه شخصاً محدّداً)، يجد نفسه أثناء اندلاع ثورة يناير 2011 في علاقات متأزمة مع ثلاث نساء: زوجة وعشيقة وصديقة. الأخيرة وتُدعى "فيروز" تشغل الحيّز الأكبر من السرد، بما أن السارد يكتب قصتها بناء على طلبها، على أمل أن ينجز روايتها الأولى، بالتالي يتصادم معها حين تكتشف أنه يحرّف ما تمليه عليه، متعلّلاً بأن "الاعتبارات الفنية" تقتضي ذلك، فهو يريد أن يكتب رواية، لا مذكّرات. تبدأ الرواية التي تتألف من 269 صفحة، بـ"مدخل" يلقي الضوء على شعور عارم بالوحدة تعيشه "فيروز"، ما يجعلها تطلب رقماً عشوائياً، لتُسمِع الطرف الآخر نحيبها، علماً أنها في الخامسة والأربعين من عمرها، وقد هجرها زوجها بعد إصابته باضطراب نفسي حادّ، وفضَّلت ابنتها الوحيدة العيش خارج مصر. وبالطبع، يمكن اعتبار ذلك المدخل جزءاً من الرواية التي يقول السارد إنه يريد أن يكتبها من واقع حياة "فيروز" المضطربة. ذلك الاضطراب الذي يبدأ من اختيار هذا الاسم لها تيمّناً بالممثلة المصرية الأرمنية الأصل التي قدّمت وهي طفلة مجموعة من الأفلام التي حقّقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً. أم "فيروز"، في الرواية، ذهبت بها وهي طفلة إلى المخرج يوسف شاهين لعلّه يجعل منها نجمة، فيضمّها إلى مجاميع تظهر في مشهد قصير في فيلم "الأرض"، وهنا تقرّر الأم نسيان حلم النجومية لابنتها.
ثم نعرف أن ذلك الصحافي ارتبط بزوجته "دينا" في شكل تقليدي، وأنجب منها طفلة تُدعى "كرمة"، ويجد نفسه مدفوعاً لاستعادة علاقته العاطفية مع "بسنت"، وهي ممثلة مغمورة، فيتزوجها لثلاثة أشهر، وبعدها ترفض زوجته الأولى أن يعود إليها وتحصل هي أيضاً على الطلاق. زوج "فيروز"، مهندس تعلَّم في فرنسا ولدى عودته إلى مصر، لم يفلح في تطبيق ما تعلَّمه، فيهيم على وجهه في الشوارع بهيئة رثّة متقمّصاً شخصية عسكري ينظّم المرور. وخلال إحدى محاولاتها استعادته من الشارع، تصدمها سيارة الصحافي، الذي كان في طريقه لمقابلة "بسنت" بعد انفصال دام لعام ونصف العام، فينقلها إلى المستشفى وهناك تؤكد للشرطة أنه غير مذنب في ما حدث لها، وتنشأ من ثم صداقة بينهما، تتحقّق من خلالها أمنيته في أن يشرع في كتابة روايته الأولى، لتتمحور حول تلك المرأة منذ طفولتها وحتى قرارها أن تنهي حياتها بمجرد أن تبلغ الـ55 من عمرها.
ميدان التحرير
تبدأ الأحداث مع اندلاع الثورة المصرية وانخراط الراوي في التظاهرات مع "بسنت" بعدما استأنفا علاقتهما: "وصلنا إلى ميدان التحرير، اشتبك الأمن معنا، وأطلقوا علينا خراطيم المياه، فتفرَّق الجمع، ووقفنا أنا وبسنت مبتلّين تماماً في ركن غير ظاهر من الميدان. كنّا محض ساذجَيْن". تمتدّ الأحداث لثلاث سنوات، من دون انخراط حقيقي في الثورة، وحتى عندما يكتب الراوي مقالاً عن تلك العاصفة قبل وأدها تماماً، رفض رئيس التحرير نشره، وأبلغه بأنّ عليه ألّا يكرّر مثل تلك الكتابة حتى يظلّ ينعم هو وأسرته بما هم فيه من هدوء! "فيروز" أكبر من الصحافي بـ13 عاماً، لكن "بسنت" تغار منها ولا تقتنع بقول الراوي إن فارق السن هذا كفيل بأن لا يرتبطا بعلاقة عاطفية، لكنها تصرّ على أن ينهي علاقته بها. يصعد الراوي ومعه "بسنت" إلى شقة "الشنواني"، في عمارة ضخمة في قلب ميدان التحرير، في ذروة الثورة، فيكتشفان أن صاحبها يؤجر أركانها ونوافذها بالساعة لأطقم تلفزيونية تتابع الحدث الرهيب. وفي الأيام التالية: "جثث ودماء تغرق الطريق إلى الباب الخلفي لسيارة إسعاف، يتكرّر خروج مجموعة من الشباب وسط زحام كوبري قصر النيل حاملين شاباً غارقاً في دمائه... عدتُ إلى كوبري قصر النيل وسط معمعة قتل الشرطة للمتظاهرين، بالرصاص ودهسهم بالمدرّعات. تنحّى مبارك (في 11 فبراير- شباط) ودخل البلد بعدها مدينة ملاهٍ كبرى".
ربما كان في ذلك الحدث أملاً في أن يخرج الراوي من سلسلة إخفاقاته، لولا أن الإجهاض كان مصيره، وهكذا يجد نفسه مضطراً لمواصلة تأمّل ما هو عليه من هدوء يخفي اضطراباً داخلياً عنيفاً: "لم أكن يوماً مهتماً بالصحافة ولم أعتبرها مهنة البحث عن المتاعب، ولا أرى في الأمر أي نضال. الصحافة بالنسبة لي وظيفة تساوي مرتّباً وبطاقة عمل، في بلد لا يمكنك أن تعيش فيه من دون كارنيه. أحاول أن أسير على الحبل حتى لا أتورّط في بالوعات السياسة والفساد في وسط لا يجيد سوى الغوص في هذه المستنقعات". صـ 132.
ومع الوقت، تتحوّل "فيروز" إلى ملاذ إذ يبثها أشجانه، "قابلتُ فيروز، وبدلاً مِن أن تحكي لي في هذا اليوم، حكيتُ أنا لها حتى الصباح عن أمي وأبي وطفولتي، وعلاقاتي المتصدّعة مع إخوتي وأقاربي، وعن بسنت ودينا وكرمة، فقالت: قصتك تصلح كرواية. ضحكتُ وقلتُ لها وأنا أقف للانصراف: اكتبيها أنتِ" صـ 133.
إستعادة سردية
وعبر تقنية الاسترجاع، نعرف أنّ أباه الذي يعيش علاقة فاترة مع أمه، أدخله مدارس دينية على أمل أن يحفظ القرآن الكريم ويكرّمه رئيس الدولة في حفلة يذيعها التلفزيون على الهواء مباشرة، وكان يضربه ويعنّفه إذا أخطأ في تسميع ما يحفظه. وعندما بلغ الصف الرابع الابتدائي، وجدوا في حقيبته المدرسية مجلة إباحية، دسَّها طالب يكبره سناً عند بدء حملة تفتيش قادها ناظر المدرسة بنفسه. تلقّى عقاباً شديداً من الأب ومن إدارة المدرسة الأزهرية على السواء. وخلال انشغاله بفكرة أن يكتب رواية تحصل على جائزة ما وتفتح أمامه الطريق لمزيد من الكتابة الإبداعبة التي ستحقّق له الشهرة، تظهر في حياته الكاتبة "سماح الطويل"، التي يرى أنها روائية ضعيفة المستوى، ومع ذلك ينخرط في ورشة لكتابة الرواية في بلد عربي، تحاضر فيه، ويحرجها بمصارحتها أمام الجميع بأن ما تنشره ينمّ عن أنها بلا موهبة، وأن ورش الكتابة لا تكفي لإعداد روائي جيد، فتسُرّ إليه لدى عودتهما إلى القاهرة بأنها لن يرتاح لها بال إلّا بعد أن تتسبَّب له في أذى يجعله يندم على ما فعله معها. لكن السارد لا يذكرها ثانية حتى نهاية الرواية، وكأنها لم توجد أصلاً. وهذا حدث كذلك مع ابن خالة "بسنت" الذي فاجأ الراوي وهو معها في شقة اعتادا الالتقاء فيها بعيداً من عيون الناس، وتعاركا حتى أقنعه بأنه رئيسها في العمل وأن هذه الشقة ليست سوى مكتب تحت الإنشاء، فطلب منه وهو يبكي أن يتوسّط له عندها لتقبل الزواج به لأنه لا يستطيع العيش من دونها، ومع ذلك لم يظهر هذا الشخص مطلقاً عندما أقام الراوي حفلة حضرها أهل "بسنت" عند زواجهما.
يقول السارد في هذه الرواية التي يهيمن على السرد فيها ضمير المتكلم: "حياتي معقَّدة كحبلٍ قديمٍ ملقى في مكان مهجور وجَدَه طفلٌ صغير وقرّر أن يصنع منه أرجوحة ليلعب بها. كلّما حاول فكَّ عقدةً، تعقد أكثر وأكثر، فصار الحلّ أن يتركه ويرتاح أو يقطّعه قطعاً صغيرة ويحاول ربط ما يصلح منها مع بعضها البعض، لكنه سيصير أضعف. أشعر كأني أقطع طريقاً لا أريد إكماله لكنني لا أعرف غيره، وأنزف الخسائر على طول رحلتي" صـ161. ثم يخاطب ابنته "كرمة" وهو في مونولوغه: "نعيش لنلهث خلف سراب. نظن أنّنا اخترنا، وفي النهاية ندرك أننا عبيد أقدارنا التي لا يمكننا التمرّد عليها".
كل شيء هادئ في هذه الرواية، من دون أمل في عاصفة. هو هدوء يخفي العاصفة ذاتها التي لا أمل في اندلاعها. يستسلم الراوي تماماً لما يُسمّيه "قدره"، وبمجرد أن تبادر "بسنت" بالاتصال به بعد مرور بضعة أشهر على طلاقهما، حتى يجد نفسه منصاعاً للتجاوب معها، ربما على أمل أن ينعم معها بهدوء داخلي لم يذقه أبداً في حياته، بعدما حقَّق لها ما طلبته مِن قبل وهو أن يطلّق زوجته الأولى، ويبتعد تماماً عن "فيروز" ومشروع روايته الأولى، ويكفّ عن التفكير كذلك في أن ثورة تشبّث للحظة بأهدابها، لم تكن سوى سراب.