عندما تسمع كلمة رصيف يتبادر إلى ذهنك ثلاث صور: المدينة ومقاهي الأرصفة والمشاة والمارة.
فالرصيف هو وحدة هندسية واجتماعية أساسية في عمران المدينة القديمة والحديثة، فقد بنى الرومان الأرصفة في مدنهم كي لا يتعرض المواطنون المشاة إلى حوادث مع العربات المارة في الطرق، وكذلك فعلت سائر الحضارات في مدنها التي شهدت اكتظاظاً سكانياً وتزايد الحركة فيها والتنقل مشياً أو على الأحصنة أو في العربات أو في السيارات بعد انتشارها، فصار بناء الرصيف من الموجبات الهندسية بعدما كان غائباً أو مجرد ترف هندسي أو عمراني، ثم مع تحوّل المدن إلى مراكز للتجارة والأعمال والمحال التي تفتح أسفل أبنيتها في شوارعها الرئيسية أو الداخلية، بدأ انتشار مقاهي الأرصفة بين هذه التجمعات التجارية وفي مراكز المدن كأماكن لراحة المتسوّقين بداية، ثم كمكان للقاء يومي لرواد المقاهي من أجل تمضية الوقت أو اللقاءات والمواعيد العملية أو كمحلٍ للنقاش وتبادل الأفكار وقراءة الصحف وشرب القهوة، والتي باتت ومقاهي الأرصفة جزءاً لا يتجزأ من الرصيف ودوره ومشهديته داخل المدينة.
مقاهي الأرصفة والمثقفون
منذ أواسط القرن الـ 20 تكرسّت مقاهي الأرصفة كمكان للقاء "المتسكّعين" من الشعراء والمثقفين والفنانين، فهي نافذتهم على المدينة، يشاهدون فيها كل ما يجري على الأرض في الشارع الرئيسي أو الشوارع الداخلية للمدن، وفيها يكتبون قصائدهم ومقالاتهم ويخطّون أفكار لوحاتهم، وهي مركز التواصل الأساسي بين هؤلاء المثقفين أو متابعيهم وقرائهم، وكان يلجأ إليها في بيروت الرافضون أنظمة الحكم في بلادهم، ويقال إنه من مقاهيها انطلقت الانقلابات العراقية والسورية واليمنية، حتى أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تكلّم في إحدى خطبه عن هذه المقاهي (دولتشي فيتا- فيصل- أنكل سام- مودكا- ويمبي- كافيه دو باري) التي تساهم في تخريب الاستقرار العربي عبر استقبالها المعارضين المنبوذين أو المبعدين.
وخلال الستينيات انتشرت مقاهي الأرصفة في مختلف المدن العربية وما زالت حتى اليوم تجمع بين جنباتها رواداً من مختلف الأجيال والطبقات، ولو أن شهرتها خفتت بسبب اتساع المدن وتبدّل أشكال المقاهي في زمن "العولمة" ومن ثم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من التواصل في المقاهي ترفاً في ظل الأزمات الاقتصادية التي يشهدها العالم العربي منذ سنوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد كُتبت في المقاهي آلاف القصائد، واشتهر فيها آلاف الشعراء على امتداد العالم العربي من المتسكّعين أو الهاربين من بلدانهم إلى بلدان أكثر أمناً، وكان للشاعر السوري الراحل محمد الماغوط حصة الأسد في الكتابة عن مقاهي بيروت ودمشق وكذلك عن الرصيف نفسه، فكتب قصيدته الشهيرة "مقهى في بيروت" التي تتحدث عن البعد عن الأهل والنفي الاختياري أو الإجباري، وعن المدن التي تبتلع الضائعين فيها وعاشقيها على السواء، وقد كتب في إحدى قصائده "أحب التسكّع ومقاهي الرصيف، لكني أحبّ الرصيف أكثر... على هذه الأرصفة الحنونة كأمي أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة".
هذا عن شارع الحمراء الذي سمي في زمن مضى "شانزليزيه الشرق" أما في الشانزليزيه الباريسي فكانت باريس في كامل أبّهتها حين أعاد المهندس هوسمان الاعتبار إلى المساحات العامة والشوارع الواسعة والأرصفة في المدينة ليجعلها واحدة من التحف المعمارية التي فتنت الشعراء والكتاب والمفكرين، من بين هؤلاء الشاعر شارل بودلير ونيتشه ورامبو وفرويد أيضاً، هؤلاء كانوا من المدمنين على المشي والسير داخل المدينة، إضافة إلى المفكر والتر بنيامين الذي يعتبر واحداً من الذين فكّكوا بنية هذه المدينة، فكانت باريس عنده مدينة للتسكّع وعاصمة للقرن الـ 19، حتى أن أشهر كتبه الفكرية جاء تحت عنوان "باريس عاصمة القرن الـ 19: كتاب الممرات".
شريان في جسد المدن
وإذا كان الرصيف ممراً للمشاة لتسهيل تنقلهم في المدينة، وفاصلاً ما بين الأبنية والشوارع، إلا أنه رويداً رويداً تم تحميله أدواراً أكبر من ذلك، فأعمدة الإنارة وإشارات المرور والأعمدة التي تحمل لافتات إرشادية أو إعلانية مختلفة كلها بات الرصيف يحملها، وباتت توضع على الرصيف مقاعد ثابتة من الحجر أو الخشب أو الإسمنت، كما تنتشر غرف الهاتف العمومي والأكشاك المختلفة ومظلات انتظار الحافلات أو سيارات الأجرة، وفي أحيان تنتشر فوقها أحواض للزهور وأشجار جميلة خضراء.
لكن هذا هو الرصيف من الأعلى، ولكن حتى أسفل الرصيف هناك عالم يساهم في إدارة الحياة المدينية عبر مجموعة من الإنشاءات التحتية، وشبكات الخدمات العامة التي تغذّي المباني والأحياء، فتمتدّ تحت الرصيف شبكات المياه والكهرباء والغاز والهاتف الثابت، إلى جانب شبكة المجاري العامة ومصارف مياه الأمطار، وهكذا لم يعد الرصيف مجرد بلاطات مرصوفة ليتمشى فوقها المارة والمتنقلون داخل المدن، بل باتت شرايين فعّالة في جسد المدن، تساهم في سير الحياة فيها.
الرصيف التاريخي
وأنشئت الأرصفة أولاً في روما القديمة كحاجز أو مساحة فاصلة تفصل الطريق عن الساحات والمباني، لكن ما لبث الرصيف أن أصبح الجزء المفضل لدى المشاة الذين وجدوه آمناً بعيداً من مسار العربات التي تجرّها الخيول، وتطوّرت هذه المساحة في مرحلة لاحقة، فأصبحت مكاناً يتجمع فيه الناس من أجل مشاهدة الاستعراضات التي تنظم بشكل دوري، وكانت هذه الأرصفة تُبلّط في الغالب بالحجارة التي ما زالت تستعمل في كثير من الأحياء الأوروبية إلى يومنا هذا.
وفي مركز المدينة (Forum) الرومانية، كان للمباني المحيطة بالساحة الرئيسة امتداد مبنيّ من العقود الحجرية وغالباً ما كانت أرضية هذا الامتداد (الرواق) مرتفعة قليلاً عن مستوى الساحة العامة، وكان الغرض من الرواق هو حماية الناس من حرارة الشمس صيفاً ومن مياه الأمطار شتاء.
وتطوّر الرصيف (الرواق)، فعرض فيه التجار والباعة بضائعهم، واكتظ بالناس والأشياء، وامتدت الطرق من الساحة الرئيسة إلى اتجاهات متشعّبة وامتدّ معها الرصيف، وتحولت الساحة المركزية التي نشأ فيها الرصيف (الرواق) إلى ملتقى للطرق يتخذ شكل الدائرة مستطيلاً، وتصير هذه بدورها الساحة الرئيسة التي منها تتفرع الشوارع وأرصفتها.
الرصيف عند العرب
وأسهب ابن خلدون في الحديث عن العمران والمدن وشروط بنائها، ورأى أنه "يجب أن يُراعى في بناء المدينة تأمين وسائل الحماية وجلب المنافع وتسهيل المرافق"، وقول ابن خلدون لم يكن إجبارياً تطبيقه في معظم المدن العربية قديماً ولا حديثاً، إلا في حالة واحدة في تقصّد الاهتمام بالرصيف وتصميمه، وكانت في مصر حين أحضر الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي "هوسمان" من أجل تخطيط مدينة الإسماعيلية وتصميم مرافقها كما هندس باريس، حتى أنها لقّبت بباريس الصغرى بسبب معمارها وشوارعها وأرصفتها الشبيهة بباريس.
والأمر نفسه ينطبق على وسط القاهرة (وسط البلد) الذي أراده الخديوي شبيهاً بباريس على ضفاف النيل، لكن هذه الأرصفة في القاهرة أو في بيروت أو في دمشق أو في أيّ مدينة عربية، تهالكت مع مرور الزمن، وكان الاهتمام بها يتم عبر ترميم مقاطع منها، ما أدى إلى تشويهها وتشويه العمران المديني، ثم تم تقليص مساحات هذه الأرصفة في عدد من المدن على حساب توسعة الشوارع أو الطرقات ومواقف السيارات، بل وفي بعض البلدان العربية، وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة لأيّ زائر، أصبح الرصيف يستعمل لركن السيارات، وكثيراً ما يتم إلحاقه بمساحات المقاهي أو يستعمره الباعة المتجوّلون.
يحدث ذلك وسط تجاهل المجالس البلدية، التي لا يحرص عدد كبير منها على مراقبة الرصيف، بل وينتشر باعة الكتب والصحف وباعة الأقمشة والملابس والدخان والتبغ على الأرصفة، وماسحو الأحذية والمتسولون الثابتون أو المتنقلون، ويأخذون جزءاً ليس بالقليل من مساحة الرصيف، وهم يستوطنون أمكنتهم فتصير ثابتة لهم بمعية "رشوة" رجال الشرطة والبلدية، وهذا ما يجعل من معظم أرصفة مدننا العربية مكاناً يدعو للضيق مما هو للانشراح أو الراحة في التنقّل، وقد يضطر بعض المارة إلى المشي في الشارع العام حيث السيارات الخطرة هرباً من مضايقات الرصيف، وبالطبع فإن هذه الحالة تتغير وتتبدّل بحسب أوضاع المجتمعات المدينية العربية.
ففي حال الحروب والفقر والكوارث الاقتصادية، تنقلب المدينة بأكملها وليس رصيفها فحسب، إلى لون رمادي كالح وينتقل إلى وجوه سكانها، والعكس صحيح في حالات السلم والنجاح الاقتصادي، يعود للمقهى وللمارة وللمحال التي على جانبي الرصيف ألقها، فيستعيد الرصيف نفسه ألقه ودوره الأول.