حُكم على مصطفى بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة السرقة وها هو في الأشهر الأخيرة من تلك المدة، أما إبراهيم فموجود بين جدران سجن رومية بتهمة الإرهاب. قد تبدو هذه التهم عادية للوهلة الأولى، أما أن يكون المعنيان هنا طفلين لم يعرفا يوماً معاني الطفولة، فهو ما يدعو إلى القلق.
في زيارة إلى سجن الأحداث في رومية، تُكشف من وراء القضبان عشرات القصص المؤلمة لأطفال هم ضحايا الأهل أو المجتمع، والأكثر إيلاماً أن يكون دخولهم السجن بمثابة حكم بالإعدام على طفولتهم. فهل في سجن الأحداث ما يصونها علّهم يختارون المسار الصحيح عند عودتهم إلى المجتمع؟
مسار طويل وتحديات
عندما دخل مصطفى السجن كان في سن الـ 15، وهو فرد من عصابة تسرق المساجد والكنائس من ضمن سرقات أخرى تقوم بها. في سجله 23 دعوى، لكن، كيف له ألا يسلك هذه الطريق وهو هارب من سورية بمفرده من دون أسرته ولا مصدر دخل لديه؟ بدت السرقة الحل الوحيد والأنسب له حينها، فكان السجن مصيره. شخصية مصطفى اليوم وثقته بنفسه لم تكونا قبل ثلاث سنوات كما هما اليوم، بحسب مسؤولة برامج التأهيل في سجن الأحداث في رومية المساعدة الاجتماعية ريتا دعيبس "مع الوقت تبين لمصطفى أن مال الحرام لا يدوم، واكتشف أن الاختيارات متعددة أمامه لمهن يمكن أن يتعلّمها، كما فعل في داخل السجن. فأتم برامج المشاغل ويقف اليوم واثقاً من نفسه بعدما كان مرتبكاً في البداية يعجز عن التماشي مع النظام الذي فرض عليه. وهو اليوم شخص آخر متميز بنظافته وترتيبه بعد مرحلة إعادة التأهيل التي مر بها في داخل السجن".
أما قصة إبراهيم ولأنه من عالم الإرهاب، تبدو أكثر تعقيداً، يستدعي "غسل الدماغ" الذي خضع له سنوات طويلة من المتابعة ضمن برامج الإصلاح ليكون اندماجه في المجتمع ممكناً، فلا يمكن التهاون في عودته إلى المجتمع، خصوصاً أن المحيط في المخيّم حيث كان يعيش، قد يعيده في أي لحظة إلى البؤرة التي كان فيها، علماً أن إبراهيم لم يصل إلى مرحلة تنفيذ عمل إرهابي، إنما ألقي القبض عليه على إثر مراقبة خطوط الهاتف واكتشاف التحضير لعمل إرهابي عبر مراسلات واتساب، حُكم عليه بالسجن لمدة ثماني سنوات، ولا يبدو إبراهيم طفلاً خجولاً، إنما التواصل معه ليس سهلاً نتيجة ما مر به من تجارب، وبحسب دعيبس، في حالة كهذه ثمة حرص في برامج إعادة التأهيل على التعامل بروية والتقدم ببطء تجنباً للعدوانية التي يمكن مواجهتها، ففضلت وضعه في زنزانة مع أطفال آخرين عند دخوله السجن، فيجد لديهم ما لم يعشه في طفولته ويكتشف أنه يمكن الاستمتاع بطرق عدة بعد أن يرى أطفالاً يمرحون معاً "شيئاً فشيئاً، ظهر تحسن ملحوظ في شخصية إبراهيم على الرغم من صعوبة التواصل معه. وتعلّم في الفترة الماضية القراءة والكتابة والحلاقة وشارك في مشغل الجلد. على الرغم من ذلك، في مثل هذه الحالات لا بد من التأني لأنه يسهل العودة إلى الطريق نفسها بسبب المحيط الذي هو منه".
لكل من قصص الأطفال في داخل السجن جانب مظلم يؤكد أنهم ضحايا لأهل ربما يكونون هم أيضاً ضحايا المجتمع نظراً للبيئة التي ينتمون إليها. في هذه القصص تفاصيل صادمة يصعب تصورها في هذا العالم الذي نعيش فيه، فدخول عالم ما وراء القضبان يكشف خفايا وأسراراً لم نتصورها موجودة إلا في الخيال. قصة محمد (15 سنة) بتفاصيلها القاسية مؤلمة أكثر. فهو كان ممن يقومون بحراسة أفراد الجيش الذين كانوا في قبضة "داعش" قبل سنوات، وطوال الأشهر الثلاثة أو الأربعة الأولى من دخوله إلى سجن الأحداث، كان يعجز عن النوم بسبب حبوب (كابتاغون) التي يتعاطاها منذ سنوات من دخوله التنظيم، وبعد فترة بدا ضرورياً إعطاؤه أقراصاً ليتمكن من النوم، كان محمد في حالة فقيرة عندما بدأ يغوص في هذا العالم، فوجد فيه مصدر رزق وبدأ يتعاطى المواد المخدرة. علماً أنه في المرحلة الأولى من دخول التنظيم لا تعطى المواد المخدرة للأفراد بل عند بلوغ مراحل متقدمة والبدء بتنفيذ الأعمال الإرهابية، وها هو اليوم يعاني اضطرابات نفسية وليس متوقعاً أن يخرج من السجن في السنوات القريبة المقبلة لخطورة الحالة.
في العودة إلى المجتمع
تتفاوت قصص الأحداث الـ 75 في داخل السجن، علماً أن عددهم كان حوالى 135 قبل انتشار كورونا. فاستدعى الوباء تخفيف العدد والتسريع في معاملات إخلاء السبيل للحد من خطر انتقال العدوى في السجن. نسبة 70 في المئة من الأحكام في سجن الأحداث بالسرقات، تليها المخدرات ثم القتل وصولاً إلى الإرهاب. ولأن الفقر سبب أساسي للخطأ لدى الأطفال عامةً، ترتفع معدلات السرقات بينهم. حتى أن كثراً منهم سرقوا كي يتمكنوا من تعاطي المخدرات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن أياً كانت التهمة الموجهة إلى الحدث، بحسب دعيبس، يفتح له ملف بالمعلومات الخاصة به عند دخوله "مركز التأهيل" كما تفضل تسميته لاعتباره ليس سجناً بكل ما للكلمة من معنى. ففيه يتعلم كيفية تطوير مهاراته الفكرية والمهنية وثمة عمل جدي على العلاقة مع الأهل والمصالحة مع المجتمع لكسب ثقته، بعد تحديد حالته ووضعه وقدراته، وهذا إلى جانب المواكبة النفسية التي تبدو ضرورية دائماً مع الأطفال. مع الإشارة إلى أن القانون اللبناني يمنع توقيف طفل دون سن 12 سنة، ويحدد قانون الأحداث مدة السجن القصوى التي يمكن الحكم بها بـ 15 سنة أياً كانت التهمة الموجهة ضده "بحسب ما للطفل من إمكانات يحدد المسار الذي سيتبع معه. فقد يتعلم القراءة والكتابة إذا ما كان أمياً لاعتبارها أولوية لحمايته في المجتمع. ويمكن أن يوجه نحو مهنة معينة أو حرف تساعده على كسب العيش عند الخروج فيكتشف تدريجاً ميله إلى أي من المهارات التي يكتسبها في المشاغل المتوافرة من ميكانيك سيارات وحلاقة وحفر في الخشب وعمل في الجلديات وكهرباء سيارات وغيرها".
عندما يجد الطفل مهنة يكسب عيشه منها، يجد مدخولاً ثابتاً ما يخفف احتمال الخطأ، كما في السابق. هذا ما تركز عليه برامج إعادة التأهيل، أما في حال تعاطيه المخدرات، فثمة تركيز على المواكبة النفسية وعلى العلاقة مع الأهل لاعتبارها المفتاح دائماً في المعالجة، هذا، مع الحرص على عدم عودته إلى المحيط الذي كان فيه والذي كان أساس المشكلة، وثمة حالات يفضل فيها أن يعود الطفل إلى جمعية تتبناه، ولأن ظلم المجتمع أسوأ من جدران السجن التي يجدون في داخلها اهتماماً ورعاية لم يجدوها يوماً في الخارج، منهم من ينتظر بفارغ الصبر لحظة العودة إلى السجن لأي سبب كان.
توضح دعيبس أن الأطفال الذين يصلون إلى السجن في غاية الذكاء، وثمة حاجة إلى التعاطي معهم بحرص شديد نظراً للتجارب التي مروا بها في حياتهم، فهم ليسوا أطفالاً عاديين، وثمة تقويم شهري في مواكبة عملية التأهيل ومراقبة السلوكيات والتقدم في المشاغل لاعتبار أن التقرير الذي يرفع إلى القاضي له أثر كبير على القرار المتخذ بشأن الحكم الصادر عنه أياً كان، ويمكن اللجوء أحياناً إلى بدائل عن الحكم في أعمال ذات منفعة عامة بحسب التهمة الموجهة إلى الطفل، حتى تشكل درساً له، لكن في كل الحالات، هناك ما ينذر، بحسب قولها، إذا ما كان طفل سيعود إلى السجن حكماً بعد خروجه، لسبب أو لآخر، لأن الإصلاح لا ينجح دوماً، وإن كانت قصص النجاح كثيرة، أما الجهات المعنية ببرامج إعادة التأهيل فعديدة وتتم بتمويل من UNODC(مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة)، إضافة إلى شركاء آخرين كوزارة التربية ووزارة الشؤون الاجتماعية لتعليم الكبار وجمعيات أخرى، وكلّ منها يعنى بجانب معين في البرامج الإصلاحية في السجن الذي يضم نسبة 50 في المئة من الأطفال اللبنانيين و30 في المئة من السوريين والنسبة الباقية من الفلسطينيين ومكتومي القيد.
برامج التأهيل
وجدت برامج التأهيل بالصورة التي هي عليها اليوم من عام 1994 مع الحركة الاجتماعية وتتحدث عن الانطلاقة وعن تطور الأمور منسقة قطاع الحماية في الحركة الاجتماعية شارلوت طانيوس، مشيرةً إلى أن الجمعية استطاعت أن تخفف إلى حد كبير معدلات دخول الأحداث إلى السجن مع مرور السنوات بالتعاون مع الوزارات المعنية "ثمة أعمال كثيرة ذات منفعة عامة يمكن أن يقوم بها الطفل عند ارتكاب جرم معين بما يتناسب مع التهمة الموجهة ضده، بدلاً من سجنه. وحالياً، لدينا إذن رسمي لمتابعة هذه التدابير البديلة التي يحكم بها القاضي".
ومن التدابير البديلة المتاحة العمل في البلديات أو في مؤسسات الخدمة العامة أو في مراكز الشؤون الاجتماعية بما يتناسب مع سنه والجنحة، ففي حال التعرض لمسن مثلاً يمكنه العمل في خدمة مسنين. ففي كل من هذه التدابير رسالة معينة تسهم في عملية الإصلاح وإعادة التأهيل بدلاً من أن يكون السجن مصيره في كل الحالات ومهما كانت الجنحة أو الجرم الذي ارتكبه. إلا أن الأعمال الجرمية الكبرى كالقتل والأعمال الإرهابية وغيرها يبقى عقابها السجن مع ضرورة المتابعة ضمن برامج إعادة التأهيل، لعل ذلك يساعد الطفل على اختيار المسار الصحيح والأفضل للمرحلة المقبلة بعد عودته إلى المجتمع.