في يوم الشعر العالمي وفي يوم الاحتفال بعيد الأم، ومع أول نسمات الربيع، تأتي ذكرى ميلاد الشاعر العربي الأشهر والأكثر جدلا في العصر الحديث. نزار قباني يسكن البيوت، لا يقبع مستكينا بين دفتي كتاب، الأرفف الخشبية لا تليق به، وبعد 21 عاما على وفاته، و96 سنة على ميلاده، ما يزال يجيد المشاكسة، ويفتح كل يوم أرضا جديدة ويضرب مواعيد مع العشاق، نزار قباني حضوره في 2019 يبدو أكثر توهجا وبهاءً.. "الأرض وأمي حملتا في وقت واحد ووضعتا في وقت واحد".. هكذا كان يقول واصفا ظروف ميلاده في شهر العواصف وهبوب الرياح.
طفل متمرد وشاعر مشاغب
لا يحتاج نزار قباني إلى مناسبة للاحتفاء به، ولكن ذكرى ميلاد اليوم قد تكون حجة لمن يحبون هذا الرجل، الذي يختزله البعض إجحافا في كونه شاعر المرأة، حيث يبدو اللقب سطحيا جدا، ويقلل من قامة نزار الذي لعب بقصائده الوطنية المتفردة ببراعة على أوتار فواجع وانتصارات الأمة، وكان من أفضل من عبّروا عنها، حتى أن تلك القصائد تحضر مع كل ذكرى كبرى، تلقائيا، تتردد على الألسنة، وكأنه آخر من كتب شعرا فصيحا يجري على الألسنة بسلاسة. نزار قباني الشاعر والدبلوماسي السوري، الذي تألق في كتابة النثر كما الشعر، وفي الأغنيات السياسية والوطنية، مثلما تألق في القصائد الرومانسية، يبدو من الصعب جدا الكتابة عنه، وهو الذي صكّ تعبيرات ما تزال تدهشنا حتى اليوم، واخترع لغته العصية على التقليد والتكرار.
نزار قباني المولود في 21 مارس (آذار) عام 1923، وفارق الحياة في 30 أبريل (نيسان) عام 1998 إثر نوبة قلبية في العاصمة الإنجليزية لندن عن عمر 75 عاما بعد وقت طويل قضاه بالمستشفى ودفن في وطنه سوريا، جرّب في طفولته الشعر والرسم وحاول حتى الطيران مثل العصافير، كان طفلا صاخبا ومشاغبا، وحينما كبر ظل مشاغبا أيضا ووضع كل تمرده في أبيات شعره، لذا كان من الطبيعي على الفتى الدمشقي المولود بحي مئذنة الشحم، وتخرّج في كلية الحقوق بالجامعة السورية 1945 والتحق بالسلك الدبلوماسي متنقلا بين عواصم عدة، أن يضيق ذرعا بحياة الدبلوماسية، ويستقيل عام 1966 ليقف في صف جنونه الشعري فقط.
أشعار وطنية تنافس في جماهيريتها قصائده المغناة
أصدر نزار قباني 36 ديوانا شعريا، بدأها بـ"قالت لي السمراء" عام 1944، وآخرها كان "أبجدية الياسمين"، والذي صدر بعد وفاته بعشرة أعوام، وكان يتضمن آخر ما كتب في المستشفى في رحلة علاجه قبيل الغياب الأخير، وجُمعت القصائد لتنشر لاحقا كمفاجأة سارة لجمهوره.
نزار قباني لديه أيضا مسرحية وحيدة و12 كتابا نثريا، بينها: "ما هو الشعر"، و"المرأة في شعري وحياتي" و"من أوراقي المجهولة"، و"سيرة ذاتية ثانية"، بالإضافة إلى عشرات القصائد المغناة، بأصوات كبار مطربي العرب، بينهم أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وطلال مداح، وفايزة أحمد، وماجدة الرومي، وكاظم الساهر، والأخير صاحب النصيب الأكبر، حتى أن أحدث ألبوماته "كتاب الحب" الذي طُرح قبل ثلاثة أعوام كانت جميع قصائده لنزار قباني.
"هوامش على دفتر النكسة"، و"بيروت ست الدنيا"، و"غرناطة" و"خبز وحشيش وقمر"، بعض من قصائد نزار قباني السياسية التي تضاهي في شهرتها وحضورها في الوجدان العربي قصائده الرومانسية المعروفة والمحفوظة كذلك عن ظهر قلب، مثل "أحبك" و"البقية تأتي" و"الرسم بالكلمات" و"قصيدة الأحزان"، ولكن يبقى الوصف المفضل والأكثر استسهالا عند البعض لنزار قباني بأنه شاعر النساء. يقول الكاتب والناقد إيهاب الملاح لـ"اندبندنت عربية" إنه يتحفّظ كثيرا على تصنيفات مثل قصيدة سياسية أو وطنية، ولكنه يقرّ بأن نزار قباني تعرّض للظلم فيما يتعلق بمحاولة حصره في نوعية معينة من القصائد، مضيفا "قصائد نزار قباني، مثل (بلقيس) في رثاء زوجته، و(قتلناك يا آخر الأنبياء) في رثاء جمال عبد الناصر، و(اخلع نظارتيك) في رثاء طه حسين، وغيرها، مجموعة من أجمل ما كتب في نعي الأحبة والشخصيات البارزة ذات الشعبية، فمثلا لا تمرّ ذكرى الأديب الكبير طه حسين دون استحضار ما كتبه نزار فيه، وكذلك ذكرى ناصر، بالإضافة إلى الحالة الشعورية الاستثنائية في (بلقيس)، والتي يستشهد بها دوما، فهي أعمال تحدث أثرا لا ينتهي في المتلقي وتثير مشاعر وطنية جياشة بالإضافة إلى الحالة الإنسانية بالطبع".
الشاعر الأكثر جماهيرية المظلوم نقديا
بالطبع قصائد الرثاء تبدو قوية جدا في مسيرة نزار، فالرجل عاش مآسي كثيرة بدءا من انتحار شقيقته، وصال اعتراضا على حرمانها ممن تحب، ثم وفاة نجله الشاب توفيق، وحتى رحيل زوجته وحبيبته العراقية بلقيس الراوي في حادث تفجير السفارة العراقية ببيروت بأوائل الثمانينيات.
يتابع الناقد إيهاب الملاح "نزار قباني عموما، تعّرض للظلم البيّن كشاعر، فبعيدا عن محاولة سجنه في نوعية قصائد بعينها، فنظرا لشعبيته وجماهيريته الكبيرة فقد تعامل معه البعض على أنه ليس من الفئة الأولى للشعراء، ولا يستحق النظر إليه مثل باقي الأسماء التي اعتنى بها النقاد ودللوها كالشعراء المنتمين للمؤسسات الرسمية مثلا، ورغم ذلك فقد حقق نزار بشعره ما لم يقدمه غيره، بإيقاعاته المميزة، وبمفراداته التي لفرط بساطتها لم يسبقه أحد غيره إلى وضعها في صورة شعرية بهذا الرونق".
يرى الملاح أن الشاعر الكبير الراحل نزار قباني بالتأكيد لم ينل ما يستحق من اهتمام نقدي، بالطبع تم دراسة شعره ولكن ليس كما ينبغي، فقد تم الالتفات إلى قيمة مشروعه بصورة أكبر بعد وفاته، ويضيف "من بين الأسماء الكبيرة التي اهتمت بدراسة بعض من جوانب شخصية نزار قباني الشعرية الناقد الدكتور صلاح فضل الذي قدم قراءة مهمة في شعره، فنزار قباني حتى اليوم يعتبر من الشعراء الأكثر مقروئية، وبعيدا عن أعماله المغناة فحضوره النصي قائم أيضا وراسخ، وبالتالي على من يعتبرون أن القصائد الرومانسية عيب وأن جماهيرية نزار قباني تعني أنه يقدم أعمالا (خفيفة) أن يراجعوا مثل تلك الأحكام، وليأتوا لنا بأحد يمكنه أن يقدم ما قدمه نزار".