ليس قليلاً ما قيل وكتب عن تأثير كورونا في كل شيء، حياة الإنسان العادية إلى النظام الكوني، من الاقتصاد والصحة والسياسة إلى فلسفة الوجود، لا حدود لما فعله كورونا بنا، فهو هزم الجميع: الأطباء، والخبراء، والجيوش، والأنظمة الصحية في البلدان المتقدمة كما في البلدان الفقيرة، ومنظمة الصحة العالمية التي موازنتها السنوية 4.8 مليار دولار، أقل من موازنات مراكز صحية في أميركا.
وهو تركنا خائفين في الحاضر، وقلقين حيال المستقبل، وحائرين في أمرنا وفي ما يقوله لنا الخبراء في الاقتصاد والحكماء في السياسة والاختصاصيون في الطب والعلم والمختبرات، قيل إن كل شيء سيتغير، وقيل بالعكس إن التغيير قليل وموقت والأشياء ستعود إلى مدارها بقوة الطبيعة البشرية التي "قانونها" الصراع والتنافس والجشع، وبقوة الأنظمة التي همها السلطة والاستمرار لا التغيير. رأينا انحسار العولمة وعودة الدولة الوطنية إلى المدّ، وسمعنا من يقول إن تحديات العصر الديجيتالي ومتطلباته صارت أكبر من مواجهتها بالدول الوطنية من دون عولمة ذات وجه إنساني على أنقاض العولمة النيوليبرالية المتوحشة.
ضحايا كورونا
قرأنا في الإحصاءات أن ضحايا كورونا في ثماني دول تقودها نساء 36 من كل مليون مقابل 214 من كل مليون في 13 دولة يقودها رجال. وسألنا، لماذا لا تحكم النساء العالم؟ سمعنا الرئيس الأميركي دونالد ترمب يطالب بتأجيل الانتخابات الرئاسية وهو أمر مستحيل في أميركا من دون انقلاب على الدستور والديمقراطية، والسبب ليس الحرص على صحة الناس بل خوف ترمب من سقوطه في الانتخابات بعد انخفاض شعبيته بسبب إنكاره خطر الوباء وفشل إدارته في مواجهته، وبالتالي ركود الاقتصاد وارتفاع عدد العاطلين من العمل إلى 30 مليوناً، ثم جاءت المقارنة بين بطء الأنظمة الديمقراطية وسرعة الأنظمة السلطوية في مكافحة الوباء، إذ بدا إغواء السلطوية كبيراً، لكن هذه صورة خادعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول فانغ فانغ في كتابها الجديد "يوميات ووهان" حيث ظهر الوباء "السلطات قالت لنا في بداية الحجر إن الفيروس ليس ناقلاً للعدوى بين البشر، ومن الممكن السيطرة عليه، فلا تقلقوا"، لكن الوباء انتشر في الصين ومنها إلى العالم وصارت الأرقام في أميركا والبرازيل هائلة كما في أوروبا، وارتفعت نسبة الانكماش الاقتصادي حتى في ألمانيا، لا بل إن الأنظمة المحافظة والأنظمة النيوليبرالية اضطرت لتخصيص تريليونات الدولارات من أجل مساعدة الناس والشركات وما سماه الرئيس الفرنسي ماكرون "تأميم الرواتب".
معنى ثمين
ومن الأقوال الشائعة "الضحايا التي لا نراها ولا نعرفها، ولو بمئات الآلاف، هي مجرد أرقام. ومنها أيضاً ما نشرته "نيويورك تايمز" أخيراً وهو "أن الحياة تأخذ معنى ثميناً عندما نعيش في حضرة الموت"، وهذا عكس ما جاء في رواية ألبير كامو "الطاعون"، "هناك دائماً حروب وطواعين كثيرة لكنها تجد الناس دائماً غير مستعدة".
وعكس ما ذكره المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس عن الطاعون الأثيني عام 430 قبل الميلاد من "أن الكارثة كانت كبيرة إلى درجة أن الرجال لم يعودوا يعرفون ما سيحدث لهم لاحقاً، فصاروا غير مبالين بأي قاعدة دينية أو قانونية".
وعكس ما قاله الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث "الموت لا يستطيع أن يخيفنا. المكسيكي أليف الموت، يطلق النكات عنه، ينام معه، ويحتفل به"، والكل يحاول التفكير في مرحلة ما بعد كورونا، أولاً على صعيد العودة إلى الحياة الطبيعية في العمل والمدرسة والنادي الرياضي وحتى المستشفى. وثانياً على صعيد البحث عن تصحيح الأخطاء التي كشفها الوباء، وبينها "سياسة الاعتماد على سلاسل توزيع الطعام في العالم" عبر تخصيص كل بلد ما يجيده وتكليف شركات كبيرة تسويقه: البطاطا في بلجيكا، لحم البقر في كندا، والكاكاو في غانا، وثالثاً على صعيد ما يحدث بين الدول الكبرى والمتوسطة، طغيان صراع المصالح والنفوذ على التعاون الحتمي أم عودة بشكل أقوى إلى الاعتماد المتبادل والمؤسسات الدولية؟
مرحلة ما بعد كورونا
إذا كان مدير منظمة الصحة العالمية يقول إن آثار كورونا ستبقى عقوداً مقبلة، فإن السؤال هو: هل هناك في الواقع مرحلة ما بعد كورونا؟ من يحدّد متى ينتهي الوباء، ولو صار اللقاح والدواء في الصيدليات؟ أليس ما ينطبق على الوضع ما قاله جون كنيث غالبريت عام 1933 عن الكساد الكبير في أميركا "الأسوأ يزداد سوءاً، وما بدا أنه يوم النهاية كان في اليوم التالي مجرد بداية؟".
نحن اليوم في عزّ الموجة الثانية الأقوى من الأولى في أميركا وأوروبا وبقية البلدان، ومن يضمن أن لا تكون هناك موجات متتابعة؟ حتى "المتعافي" من كورونا ليس آمناً من الإصابة مرة أخرى، كما يقول الأطباء. اللص يسحب المسدس أو السكين ويقول لك: حياتك أو مالك؟ كورونا الذي يدمّر الاقتصاد يأخذ بلا مسدس الحياة والمال.