استنفدت تركيا البلاد عشرات المليارات من الدولارات من الاحتياطيات هذا العام في محاولة للحفاظ على ربط العملة غير الرسمي - وهي خطوة تمثّل قطيعة مع سياسة عقدين من السماح بالتعويم الحر. ولكن في إشارة إلى تعثّر تلك الجهود، اندفعت الليرة نحو مستوى قياسي منخفض مقابل الدولار حتى مع إنفاق السلطات المليارات في محاولة للدفاع عنها، وبحسب ألمونيتار دوت كوم، فإن البنك المركزي التركي أنفق حوالى 60 مليار دولار منذ بداية العام على تدخّلات العملة للحفاظ على الليرة دون الحاجز النفسي البالغ سبعة لكل دولار، الذي تجاوزه خلال الأسبوع الماضي، مِمَّا دفع صندوق النقد الدولي إلى القول في تقريره للقطاع الخارجي الصادر في أغسطس (آب) 2020، إن حاجات التمويل الخارجية لتركيا وانخفاض الاحتياطيات تركت البلاد "عرضة للصدمات".
وذكر الصندوق في تقريره أن "الإصلاحات الهيكلية المركّزة ستكون ضرورية لتعزيز الإنتاجية وزيادة المرونة في مواجهة الصدمات وتقوية الميزانية العمومية للقطاع العام الأوسع وتحسين الشفافية بشكل عام".
هبوط تاريخي للعملة التركية مقابل الدولار
وسجلت الليرة التركية أدنى مستوى هبوط لها على الإطلاق مقابل الدولار يوم الخميس، وانخفضت إلى 7.2775 مقابل الدولار، قبل أن تستقر عند 7.24، مقارنة بأدنى مستوى قياسي سابق بلغ 7.26 في مايو (أيار). مع هذا الهبوط التاريخي تكون العملة التركية قد فقدت أكثر من 22 في المئة من قيمتها مقابل الدولار منذ بداية العام، في وقت يأتي استمرار التراجع على الرغم من بيع البنوك التركية الدولار بقوة في معظم فترات العام لدعم الليرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع الهبوط التاريخي للعملة التركية مقابل الدولار، خسرت الأسهم المتداولة في بورصة اسطنبول اليوم الخميس نحو خمس قيمتها، كما يأتي هذا الهبوط على الرغم من المؤشرات الاقتصادية الإيجابية في يوليو (تموز)، بما في ذلك ارتفاع في نشاط الصناعات التحويلية في البلاد وانخفاض طفيف في تضخّم أسعار المستهلكين إلى 11.76 في المئة على أساس سنوي.
الإشارات الاقتصادية المختلطة ساعدت في زيادة تكهّنات المستثمرين، وكان البنك المركزي التركي قد تحرّك للحدّ من سيولة الليرة لتقييد التداول الذي يؤدي إلى مزيد من تخفيض قيمة العملة.
في حين تحدث البعض عن أن سلوك بعض البنوك الحكومية في ما يتعلق بسيولة الليرة التركية يبدو وكأنه قد حاصر السوق، وأن هناك بعض الضغوط لتثبيط المضاربة في الأسواق.
في السياق، أفادت بلومبيرغ أن أسعار الفائدة على اقتراض الليرة التركية ارتفعت لفترة وجيزة يوم الثلاثاء 1020 نقطة مئوية إلى 1050 في المئة بعد استنزاف إمدادات العملة المحلية بسبب التدخلات الأخيرة. ومن المحتمل أن يكون سبب الارتفاع الكبير، البيع السريع بقيمة 2.5 مليار دولار من قبل المقرضين المملوكين للدولة الأسبوع الماضي لدعم الليرة.
ويُنظر إلى مثل هذه التدخلات على أنها حلول قصيرة الأجل للحفاظ على العملة طافية، لكن المحلّلين يحافظون على تدفقات كبيرة لرأس المال، وسيكون من الضروري رفع أسعار الفائدة لتجنّب الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق.
فجوة في المالية العامة للبلاد يصعب ردمها
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أشاد خلال حديث الشهر الماضي بالانخفاض الحاد في أسعار الفائدة وأثنى على التدابير المتّخذة لمنع الهجمات "الخبيثة" على الليرة التركية. وقال إن مثل هذه الخطوات "تقوّي جهاز المناعة في اقتصادنا ضد الاضطرابات العالمية".
لا يمكن أن يكون هذا أبعد ما يكون عن نظرة معظم الاقتصاديين للصورة التركية. ترك الانهيار في السياحة نتيجة لفيروس كورونا فجوة في المالية العامة للبلاد. فر المستثمرون الأجانب، وسحبوا حجماً كبيراً من الأموال من سندات وأسهم العملة المحلية للبلاد على مدى الأشهر الـ12 الماضية.
وقال صهر أردوغان، وزير المالية بيرات البيرق، مراراً وتكراراً إن الأمة تتمتّع بـ"فصل إيجابي" عن الاتجاهات التي شوهدت في الأسواق الناشئة الأخرى، لكن بعض المحلّلين يخشون من أن استراتيجيته تزرع بذور أزمة للعملة التركية.
التدخل السياسي لأردوغان في السياسة النقدية للبلاد
في السياق ذاته، اعتبر روبين بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي، أن تركيا "خارجة بالكامل" ولكن لأسباب خاطئة عدّة، فإنها تعاني من عجز كبير في الحساب الجاري وتنفق المليارات في محاولة الحفاظ على عملتها ثابتة وضخّ الاقتصاد بائتمان رخيص – التكتيك ذاته الذي أثار أزمة ضخمة قبل عامين فقط عندما فقدت الليرة ما يقرب من 30 في المئة من قيمتها مقابل الدولار. وتسبّب ذلك في تراكم الضغط على قطاع الشركات المثقلة بالديون فيها وأدى إلى تضخم مرتفع، مِمَّا قاد إلى الركود.
وأضاف بروكس أن الخطر يكمن في أن تركيا تواجه "انخفاضاً غير منظم" آخر من شأنه أن يعقّد جهود البلاد في التعافي من فيروس كورونا، قائلاً "ما لم يتم تخفيض دفعة الائتمان، أعتقد أن المخاطر تتراكم".
ويبدو أن نهج تركيا عالي المخاطر يعكس مقامرة على التعافي السريع والقوي من الوباء في الداخل وفي أسواق التصدير الرئيسة، في وقت يشعر المستثمرون بالقلق إزاء استقلالية البنك المركزي وكيف سيؤثر التدخل السياسي لأردوغان في السياسة النقدية للبلاد.
فينيكس كالين، مدير استراتيجية إي أم في سوسيتيه جنرال قال لـ"بي بي سي وورلد": "إن إقالة الرئيس أردوغان، لمحافظ البنك المركزي مراد سيتينكايا في يوليو الماضي الذي تسبّب في انخفاض الليرة بنسبة 1.6 في المئة، يدلّل على إصرار الرئيس التركي على فرض إملاءاته على السياسة النقدية وعلى نطاق أوسع، فإنها تشير إلى سيطرة رئاسية مشدّدة على السياسات الاقتصادية للبلاد".
فيما أوضح أتيلا يسيلادا، المحلل السياسي في غلوبال سورس لـ ألمونيتار دوت كوم: "هناك تدفق لرأس المال، ولدينا عجز في الحساب الجاري إضافةً إلى الديون الخارجية المستحقة، ومعظمها يتم ترحيله في هذا الوقت من العام، وهذا يضغط تلقائياً على العملة".
وأضاف أن السؤال "ليس ما إذا كنّا سنواجه أزمة، ولكن متى سنواجه أزمة إذا لم تتغيّر السياسات".
ويعتقد مراقبون أن زيادة كبيرة في أسعار الفائدة مطلوبة لتجنّب المزيد من الضرر للليرة التركية والاقتصاد الأوسع.