يبدو أن ثمة مفاجأة جغرافية مدوية على وشك الحدوث في الولايات المتحدة. فقد بات من المؤكد أن ارتفاعات المعالم والمباني والوديان والجبال وكل ما فوق أراضيها ستشهد تغييراً لجهة مدى ارتفاعها عن مستوى سطح البحر؛ إذ سيصبح معظمها أقصر - أو لنقل أقل ارتفاعاً - مما توثقه الخرائط الجغرافية التي بين أيدينا اليوم. ذلك أنه بفضل طرق الحساب الدقيقة المعقدة المدعومة بقراءات الأقمار الصناعية التي تجوب الفضاء، ستنكمش أطوال معظم المعالم الجغرافية الواقعة شمال غربي المحيط الهادي وأجزاء من ألاسكا بزهاء مترين وفقاً لجوليانا بلاكويل، مديرة "الدائرة الوطنية للمسح الجيوديسي"، الوكالة الأميركية المعنية بتحديد الإحداثيات الجغرافية.
يذكر أن الجيوديسيا هي علم قياس ورسم سطح الأرض، وهي تُعنى بتحديد الحقل الخارجي للجاذبية الأرضية، وتعيين ورسم أرضية المحيطات، ودراسة تأثير شكل الأرض وحجمها ومجال جاذبيتها واتجاهها في الفضاء على المشاريع الهندسية الكبيرة. وتتلخص مهمة الخبراء الجيوديسيين عادة في تحديد ارتفاع مَعلمٍ ما عن طريق مقارنته بـ"نقطة مرجعية"، لكنهم اليوم بصدد إعادة تعريف هذه النقطة المرجعية أو ما يسمى "المسند الرأسي" الذي يمكن الركون إليه لتحديد الارتفاع، وهي مهمة شاقة للغاية تتطلب قياسات رياضية وفيزيائية معقدة سيستغرق إنجازها عقداً ونصف العقد على أقل تقدير.
المعايرة الكبرى
تعد "عملية المعايرة الكبرى"، التي أُطلق عليها اسم "تحديث الارتفاع"، جزءاً من جهد أوسع أطلقته "الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي" الأميركية، لتحديد مكان وكيفية تواجد الولايات المتحدة فعلياً على سطح هذا الكوكب، بشكل أكثر دقة. وفي هذا الصدد، ينقل موقع "جيوديسي" عن بلاكويل قولها إنه من المتوقع أن يتم البدء بتنفيذ الهيكل الأساسي للبيانات الجغرافية المكانية الجديد، الذي يشمل التحديد الدقيق للارتفاعات وأماكن مرور خطوط العرض والطول وكذلك النطاقات الزمنية، في أواخر العام المقبل أو بداية عام 2023. وسيحل هذا الهيكل محل الأنظمة المرجعية المُعتمدة منذ ثمانينيات القرن الماضي والتي تعاني انحرافات جزئية، والتي تم استنباطها من قراءات أُجريت قبل ظهور الحواسيب العملاقة الفائقة أو أنظمة أقمار الملاحة العالمية (GPS).
وتذكر في ذات الشأن، أن أرقام الارتفاعات الخطأ تتضخم كلما تحرك المرء بشكل مائل أو قُطري عبر الجنوب الشرقي للولايات المتحدة باتجاه شمالها الغربي. وفي هذا الصدد يتوقع الخبراء أن يكون إصبع فلوريدا الجغرافي واحداً من المناطق القليلة التي ستُحافظ على ارتفاعها الحالي. وتقول بلاكويل بذات الاتجاه: "ثمة انحراف حقيقي يُراكم الأخطاء في شبكتنا المسندية الرأسية ويزيدها كلما اتجهنا نحو الشمال الغربي".
لكن الارتفاع مرتبط منذ فترة طويلة بغرور الذات الأميركية. ذلك أن بعض سكان كولورادو قلقون من أن بعض قمم الجبال سوف تقع تحت عتبة حب المفاخرة في ظل نظام الارتفاعات الجديد. وبالقرب من بومونت في تكساس، يتجادل الأميركيون حول الأخبار غير المرحب بها التي تفيد بأن مناطق معينة ستنخفض كثيراً مقارنة مع الحسابات السابقة بحيث ستصبح مصنّفة ضمن السهول الفيضية. ونتيجة ذلك، قد يضطر بعض ملاك الأراضي إلى تأمين أراضيهم وممتلكاتهم ضد الخسائر الناجمة عن الفيضانات.
تاريخ من القياسات
دأبت الولايات المتحدة على قياس ارتفاعاتها منذ عام 1807؛ حين أسس توماس جيفرسون، رئيس البلاد آنذاك، وكالة "مسح الساحل"، التي أصبحت في ما بعد "الدائرة الوطنية للمسح الجيوديسي"، بهدف ترسيم حدود المياه والسواحل على الطرف الشرقي للبلاد. ومن الجدير ذكره أن الوكالة أول جهة علمية مدنية في أميركا، أما الهدف من إنشائها فكان جعل الشحن البحري أكثر أماناً.
مع توسع البلد غرباً خلال القرن التاسع عشر، وكذلك القياس، تم اعتماد الساحل الشرقي نقطة مرجعية ارتفاعها صفر واعتبارها مستوى سطح البحر. وقام المسَّاحون بزراعة علامات إرشادية معدنية في الأرض (مساند رأسية) أثناء ترحالهم ميلاً بعد ميل، محددين ارتفاع كل معلم فوق مستوى سطح البحر، بحيث إنه لو أراد أي شخص قياس ارتفاع مبنى أو هضبة فما عليه إلا قياسه عن طريق مقارنته بالعلامات الإرشادية.
كان "المستوى الجيوديسي"، كما سُميت العملية، مضنياً ومكلفاً. أما الأساس المنطقي من ورائها، فكان التأكد من دقة ارتفاع المعالم بالطريقة نفسها في جميع أنحاء البلاد، بدلاً من أن يكون لكل مقاطعة أو ولاية نظامها الخاص. وعلى سبيل المثال، إذا كان مهندسون من ولايتين مختلفتين يقومون ببناء جسر عابر للحدود، فسيحتاجون إلى معرفة دقة ارتفاع المعالم ليجتمع طرفاه في نفس النقطة لدى المنتصف.
وبحلول عام 1900، أصبحت الجيوديسيا أكثر تعقيداً. فبدلاً من استخدام الخط الساحلي الشرقي مرجعاً لمستوى سطح البحر، طور الجيوديسيون نموذجاً رياضياً يعتمد مرجعاً يقوم على قراءة حسابات المد والجزر. وقاموا منذ ذلك الحين بتعديل مرجع الارتفاع خمس مرات، في الأعوام 1903 و1907 و1912 و1929 و1988. ليظل النموذج الأخير المرجع السائد حتى يومنا هذا في كل من الولايات المتحدة والمكسيك المجاورة.
الأقمار الصناعية تقتحم الميدان
يقول ديفيد زيلكوسكي، عالم الجيولوجيا والمدير السابق لـ"الدائرة الوطنية للمسح الجيوديسي" لموقع "أيون" العلمي المتخصص، إن نموذج 1988 افتقر إلى معلومات دقيقة عن كاليفورنيا وأجزاء من تكساس وكارولينا الشمالية. وذلك لأن القشرة الأرضية في هذه المناطق تحركت نحو الأعلى أو الأسفل بشكل كبير جراء النشاط الزلزالي للصفائح التكتونية واستخراج مكامن النفط والغاز والماء من تحت الأرض.
يذكر أن نظام تحديد المواقع العالمي يُعد خياراً ممتازاً لتحديد مكان شخص ما، ضمن نطاق مسطح ثنائي الأبعاد (عند زاوية تقاطع شارعين على سبيل المثال)، وهو قادر أيضاً على تحديد مكانه في عالم ثلاثي الأبعاد (عند زاوية تقاطع شارعين على ارتفاع 15 متراً فوق مستوى سطح البحر). يقول زيلكوسكي إنه بحلول منتصف التسعينيات تم اكتشاف ميزة تحديث الارتفاع باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي، وهي ميزة سهلة وغير مكلفة.
لكن في المقابل برزت لاحقاً مشكلة أخرى حسب جيمس ديفيس، عالم الجيوفيزياء في "مرصد لامونت- دويرتي الأرضي" بجامعة كولومبيا في نيويورك الذي كتب مقالاً حول هذا الصدد لدى موقع "إن جي إس" العلمي المتخصص جاء فيه: "إن نظام تحديد المواقع العالمي لا يعرف الكثير عن الجاذبية". والجاذبية مهمة لعمل الجيوديسيين؛ فالارتفاع هو المسافة التي يتم قياسها على طول الاتجاه الذي تشير إليه الجاذبية، وتختلف قوة واتجاه الجاذبية وفقاً لكثافة ما تحت التضاريس وبالقرب منها. وبعبارة أخرى، فإن الارتفاع ليس مجرد مسافة تعلو سطح الأرض، بل هو مرتبط بالجاذبية المتصلة بدورها بتوزيع الكتلة. لذلك يستخدم الجيوديسيون مصطلح "الارتفاع" بدلاً من "العلو".
نتيجة ذلك، يمكن أن يكون الارتفاع الذي تم قياسه بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي غير دقيق. لكن إجراء قياسات مفصلة للغاية لمجال الجاذبية، من أجل إدخالها في معادلة الارتفاعات التي تم التقاطها بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي، ليست مهمة بسيطة. لذا أطلقت "الدائرة الوطنية للمسح الجيوديسي" في عام 2007 مهمة طموحة أطلق عليها GRAV-D (اختصاراً للجاذبية سبيلاً لإعادة تعريف مرجع الإسناد الرأسي الأميركي) لتحقيق هذه الغاية. ويعتزم الخبراء الجيوديسيون استخدام قراءات الجاذبية هذه لبناء نموذج يمثل أفضل متوسط لمستوى سطح البحر في كل مكان في العالم، بما في ذلك معالم اليابسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عقبة أخرى
لكن حتى عندما تتحسن قدرات الخبراء الجيوديسيين في إجراء قياسات مفصلة للغاية لمجال الجاذبية، فإن البشر يغيرونها. إذ وبينما نقوم بتسخين كوكبنا منذ الثورة الصناعية، فإننا نتسبب بشكل غير مباشر بإذابة الأنهار الجليدية وأغطية الجليد الدائم، فتنتقل كتلتها من الأرض إلى المحيطات مما يرفع مستوى سطح البحر. وفي المحصلة، يتغير الارتفاع الذي يستخدم مستوى سطح البحر كمرجع صفري.
وفي الواقع، فإنه من خلال تغيير البشر للمناخ فإنهم يُغيّرون الجاذبية عبر الكوكب. يقول الدكتور ديفيس: "نقوم بتغيير الجاذبية عن طريق إدخال تعديلات كيميائية في الغلاف الجوي تتسبب في تحريك كتلة الكوكب. ومقدار الكتلة الآن هائل، ويمكن ملاحظته في شكل المجسم الأرضي كما يمكن ملاحظته في حركة دوران الأرض". ويصارع الدكتور ديفيس وعلماء آخرون الوقت لمعرفة كيفية حساب تأثير بصمة البشر بشكل أكثر دقة على كوكبنا خلال السنوات المقبلة. ويقول: "قبل بضع مئات من السنين، كان كل شيء يتعلق بماهية شكل الأرض. أما الآن، فقد أصبح: هل يمكننا قياس الشكل المتغير للأرض ومقدار التغيير الحاصل لدى كتلة الأنهار الجليدية بما يكفي لمعرفة ما سيحدث في هذا الموقع أو ذاك؟ نحن في سباق مع الزمن".