رغم الاتفاق على أهمية خطط التحفيز الضخمة التي رصدتها الحكومات حول العالم للتعافي من تداعيات فيروس كورونا المستجد، فإنها حملت معها تأثيرات سلبية تستمر بالضغط على الاقتصاد العالمي بعد انقضاء الجائحة.
وفي هذا الشأن، قال محللون ومختصون في إفادات متفرقة لـ"اندبندنت عربية"، إن "خطط التحفيز المالي والنقدي كانت ضرورة قصوى لتجنب الدخول في كساد عظيم، إلا أن هذه الخطط أغرقت العالم بالسيولة والقروض الرخيصة التي أغرت المتعثرين وغير المتعثرين في الاقتراض بنحو لافت رغم ضبابية المشهد الاقتصادي".
وفي هذا الإطار، رصدت الحكومات حول العالم ما يجاوز 10 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي، عبر سياسات مالية ونقدية، هذا بحسب أحدث تقييم صادر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة.
من جهتهم ذكر المحللون أن الخسائر غير المسبوقة على للاقتصاد العالمي طالت جميع الدول، ومن المتوقع أن تستمر فترة كبيرة لمعالجتها وستختلف الأمور من دول لأخرى حسب ملاءتها المالية والاحتياطات النقدية التي ستمكنها من الإنفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد مع بعد كورونا.
وعلى أعتاب الخسائر الفادحة التي أدت إلى شلل في الاقتصاد العالمي، يتوقع المحللون أن تكون هناك دول غير قادرة على تخطي النتائج الفادحة التي خيمت على نشاطها المالي والتجاري، وتبقى الدول القوية التي تمتلك الاحتياطيات الجيدة، إضافة إلى أن الصناديق السيادية هي المؤهلة لتخطي الركود المتوقع، خاصة بعض الدول الخليج والتي حافظت على أسس اقتصادية جيدة رغم الخسائر، فإن دعم القطاع الخاص، والعمل على إعادة برامج الإنفاق، والتوجه تنوع الاقتصاد كل ذلك سوف يعزز من الاستقرار في المنطقة.
في المقابل، لا تزال الاقتصادات الكبرى في العالم تقر حزمة تحفيز ضخمة، فخلال الشهر الماضي، وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة تحفيز بقيمة 750 مليار يورو (859 مليار دولار)، في تضامن غير مسبوق في نحو سبعة عقود من التكامل الأوروبي. وللمرة الأولى ستبيع الدول الأوروبية السندات بشكل جماعي وليس على أساس فردي، وتقوم بتحويل العائدات إلى الدول الأكثر تضرراً، خاصة في جنوب أوروبا، بينما نجد الولايات المتحدة تناقش خطة تحفيز جديدة بقيمة 3 تريليونات دولار إضافية بخلاف الحزمة التي أقرتها في مارس (آذار) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الصدد، يصل حجم حزم التحفيز التي أقرتها دول العالم حتى الآن إلى نحو 16 تريليون دولار، إلا أن التعافي الاقتصادي قد يكون له آثار جانبية مؤرقة خلال الفترة المقبلة، لا سيما على صعيد ملف الديون، بحسب تقرير سابق لمعهد التمويل الدولي.
وفي هذا الصدد ذكر أيضاً معهد التمويل، أن أسواق المال ترحب بحزم التحفيز التي تقرها الحكومات، إلا أن التعافي الاقتصادي قد يأتي على حساب الإنتاجية الأقل ومعدلات الدين المرتفعة، مضيفاً أن حزم التحفيز العالمية تقدر بنحو 11 تريليون دولار، وهناك حزم قيد الموافقة قيمتها 5 تريليونات دولار، وأغلب تلك الحوافز تحصل عليها الدول من خلال إصدارها سندات في الأسواق المالية.
فيما قدر محللون أن تتجاوز حزم التحفيز 20 تريليون دولار مع إقبال الاقتصادات الكبرى على إقرار مزيد من برامج التحفيز المالي والنقدي لدعم تعافي الاقتصادات ومع تكشف الأضرار الحقيقة لفيروس كوفيد-19".
فخ الركود
من جانبه، قال جون لوكا، مدير التطوير بشركة ثينك ماركتس البريطانية، إن "طبيعة برامج التحفيز ستختلف بالطبع من دولة إلى أخرى، ولكن هدفها واحد تخفيف الوقوع في فخ الركود، والجميع يتابع أداء الاقتصادات الكبرى حول العالم ومدى نجاح خطط التحفيز فيها".
وفي هذا الصدد، أشار لوكا إلى أن الكل يتابع الاقتصاد الأميركي نظراً لدوره القيادي على الصعيد العالمي، بجانب ضخامة حزم التحفيز وكذلك تكبده الخسائر الأكبر خلال هذه الأزمة.
ومن زاوية أخرى، يرى أن برنامج التحفيز الأميركي ركز على تكثيف الدعم المالي وكان الأضخم عالمياً بقيمة بلغت 3 تريليونات دولار أقرها في مارس الماضي، فيما يناقش الكونغرس الأميركي حزمة تحفيز بنفس القيمة للتعامل مع تداعيات المرحلة الحالية. مفيداً أن برامج التحفيز بشكل عام تعزز ارتفاع مستويات التضخم لا سيما وأن الاقتصاد العالمي تعرض لصدمة غير مسبوقة في المعروض السلعي في حين دعمت الحكومة ارتفاع الطلب عبر تحفيز الأفراد بإعانات مباشرة.
كما ذكر أن ارتفاع السيولة النقدية الفائضة يدعو للقلق، إذ نواجه زيادة هائلة في عرض الأموال واستخدامات محدودة فقط من قبل الأسر والشركات، مرجعاً ذلك إلى استمرار تفشي الوباء والذي يشكل خطراً على عودة الحياة لطبيعتها.
من جهته، قال محلل الاقتصاد العالمي علي حمودي، إن من أهم تداعيات التحفيز والتيسير الكمي للبنوك المركزية هو ارتفاع تقييم أسواق الأسهم إذ عادة ما ترتفع أسواق الأسهم لتحقيق أرباح جيدة في ظل أن عوائد الائتمان حالياً منعدمة وأصبحت بالسالب ببعض الدول، كما انخفض الاستثمار في السندات عالية الجودة بالدول المتقدمة اقتصادياً (الولايات المتحدة – ألمانيا – سويسرا- اليابان).
وأضاف أن هذا يؤدي إلى تضخم الأصول الأخرى خاصة الأسهم وارتفاع مستويات السيولة، وهذا قد يحدث فقاعة مستقبلية لبعض قطاعات الأسهم التي تقدر بأكبر من قيمتها السوقية الحقيقة، لذا على المستثمرين أخذ الحذر.
وأوضح حمودي أن التأثيرات السلبية لخطط التيسير الكمي تنعكس في انخفاض الدولار مما يؤدي لارتفاع بعض السلع وزيادة التضخم وتراجع القوى الشرائية للعملات حول العالم، ويزيد معها اتجاه المستثمرين نحو شراء الذهب للتحوط من التقلبات.
وأشار إلى أن البديل الاقتصادي أمام الحكومات هو ما تقوم به الآن بقيادة خطط التحفيز بدلاً من البنوك المركزية التي وصلت ما لديها لتحفيز الاقتصاد، لذلك مطلوب من الحكومات مساندة الشركات وتقديم الدعم المالي لعبور الأزمة الحالية.
لا بديل عن التحفيز
وفي هذا الشأن، قال رائد الخضر، رئيس قسم الأبحاث لدى "إيكويتي جروب" العالمية ومقرها لندن، إن الاقتصادات الكبرى دخلت بالفعل في ركود اقتصادي، بعد ما انكمش اقتصادها لربعين متتالين من هذا العام، لذا لا بديل عن استمرار خطط التحفيز.
وأضاف الخضر أنه إٕذا أردنا الإبقاء على النظام الاقتصادي العالمي الحالي، فلا يوجد حالياً أي حل إلا أن تقدم الحكومات الحوافز المالية والنقدية، أو ندخل في مرحلة تشبه الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي أو فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية، ولا أحد يريد العودة هناك.
وأشار إلى أن الآثار الجانبية لخطط التحفيز الهائل موجودة بالفعل، حتى وإن كان غير مرغوب فيها لكنها إجبارية لأنها ستنقذ المجتمع وتحمي أجيالاً قادمة قد تعاني من تدهور أسواق العمل والأجور.
ويرى الخضر أن الاقتصاد العالمي في ركود عميق بالفعل، ورغم أن التوقعات تشير إلى أن النصف الثاني من العام الحالي سيعود فيه الاقتصاد للنمو، بل وقد نشهد مستويات نمو قياسية في بعض الدول، فإن الاقتصاد العالمي سيبقى ضعيفاً، وأي هزّة اقتصادية جديدة ستكون قادرة على إدخاله في انكماش جديد.
وأكد ألا أحد يشك في أن فيروس كورونا تسبب في دخول العالم في أسوأ ظروفه الاقتصادية منذ عقود من الزمن، وأجبرت الحكومات على إجراءات إغلاق اقتصادي وحجر تسببت في هذا الوضع الاقتصادي، وارتفعت نسب البطالة حول العالم.
دمار الأسس الاقتصادية
في هذا الشأن قال خضر: "لا شك في أن البنوك المركزية حول العالم، وكذلك الحكومات، كانت ولا تزال مجبرة على اتخاذ تدابير لمنع انزلاق الاقتصاد في كساد يشابه الكساد العظيم ثلاثينيات القرن الماضي، إذ إن دخول الاقتصاد في مرحلة تشابه ما مر فيه الاقتصاد العالمي في ذلك الوقت سيكون سبباً لدمار الأسس الاقتصادية التي نعرفها حالياً".
وقال الخضر إن "الفيدرالي الأميركي قام بضخ سيولة بالتريليونات. ووضع خططاً لتوفير سيولة للإقراض تصل قيمتها إلى 2.3 تريليون دولار، التي توجّهت نحو دعم الاستهلاك والتوظيف والحكومات المحليّة في الولايات الأميركية"، مؤكدا "أنه دون التحفيزات الاقتصادية التي تقدمها الحكومات، سنكون اليوم في ركود اقتصادي حاد لن يستطيع أحد إخراجنا منه... ويشبه تأثير جائحة كورونا رمي حجر في بركة ماء، فالضربة الأولى قد تكون موجعة وقوية، لكن سيتبعها لاحقاً موجات قوية أخرى متلاحقة من الضربات الاقتصادية".
وفي هذا الشأن توقع ألا يتعافى الاقتصاد العالمي من الأزمة قبل أعوام عديدة يحصل فيها ارتفاع هائل في نسب البطالة وزيادة كبيرة في معدلات الفقر على مستوى العالم أجمع شاملاً حتى الدول التي تعتبر من الدول الغنية.
وأكد أن الخطط الحكومية وتحفيزات البنوك المركزية لن تخرجنا تماماً من آثار جائحة كورونا، لكنها ستكون قادرة بلى شك على منع حصول هزّات اقتصادية ارتدادية تابعة لهزّة الركود الاقتصاد الحاد خلال الربع الثاني من هذه السنة.
ولفت إلى أن انهيار أسواق الأسهم حول العالم لو لم يتوقّف، فإن هناك تريليونات أخرى سيفقدها العالم، والمستثمرون هنا سيتوجّهون للتخلّي عن أي استثمار، وهنا ستبدأ حلقة مفرغة أخرى، بين انهيار أسعار الأسهم والأصول، وضعف التوظيف والمشاريع الجديدة.
ارتفاع الديون
في الوقت نفسه أكد نور الدين محمد رئيس مجموعة تارجت للاستثمار، أن خطط التحفيز الضخمة رغم أهميتها فإنها حملت العديد من السلبيات أبرزها ارتفاع معدلات الديون سواء على الشركات والحكومات في ظل انخفاض أسعار الفائدة والتي وصلت إلى الصفر في عديد من الدول، كما كان لإجراءات التحفيز والتسهيلات الائتمانية دور كبير في خلق شركات "الزومبي" والتي تعتمد بصفة أساسية على القروض للاستمرار، في حين أن الإيرادات لا تكفي إلا لسداد فوائد القروض فقط.
وأضاف أن الدول حول العالم وعلى رأسها الصين كانت تخطط قبل ظهور أزمة "كورونا" للتخلص منها والقضاء عليها، إلا أن الأزمة الأخيرة زادت من وتيرة هذه الشركات مع تزايد الصعوبات التشغيلية والخسائر الكبيرة التي تتكبدها الشركات حول العالم.
وتابع: "لا شك أن الاستجابة السريعة لدول العالم وتقديم التحفيز والتيسير الكمي كلها نواحٍ إيجابية في تخفيف الأضرار وتحجيم الخسائر لأزمة كورونا، لا سيما في أكبر اقتصادات عالمية مثل الولايات المتحدة والصين واليابان والاتحاد الأوروبي".
وأفاد بأنه من النواحي الإيجابية لخطط التحفيز يتمثل في إنقاذ العديد من الاقتصادات التي تضررت بشدة والحفاظ على الصناعات من خلال توفير تمويل منخفض التكلفة بشروط ميسرة، مما كان بمثابة قبلة الحياة لهذه البلدان أو الشركات.
من ناحية أخرى، قال رئيس تارجت للاستثمار، إنه مع زيادة المعروض من السيولة في الأسواق كان لا بد من خفض فائدة الديون والتي وصلت في بعض البلدان الأوروبية إلى ما دون الصفر لتصبح فائدة سلبية وكذلك في الولايات المتحدة، حيث استقرت أسعار الفائدة ما بين صفر و0.25 في المئة، وهو ما يزيد معدلات الاستدانة.
سلاح ذو حدين
وفي الأمر ذاته، يرى أن التحفيز يعتبر سلاحاً ذا حدين، لأنه في حالة تعافي الاقتصادات بصورة سريعة ورجوع الاقتصادات العالمية إلى ما كانت عليه سيكون ذلك بمثابة تمويل قصير الأجل ساعد في تعافي الأسواق والحفاظ على عدم حدوث خلل في الاقتصاد العالمي، في المقابل، في حالة عدم التعافي السريع سوف يدخل السوق العالمي في موجة من التضخم أو الكساد التضخمي أي زيادة الأسعار مع انخفاض أو انعدام القدرة الشرائية لدى المستهلكين مما يكون له أثر سلبي كبير على الاقتصاد.
وأفاد: "لعل ما نراه من زيادة كبيرة في أسعار السلع النفيسة على رأسها الذهب يفسر جزءاً كبيراً من مخاوف المستثمرين وتفضيل أصحاب الثروات والصناديق حول العالم إلى اقتناء الذهب للتحوط ضد ما قد يحدث من تقلبات"، مضيفاً أنه ليس هناك حل بديل لإنقاذ الاقتصاد العالمي إلا باستمرار الأنشطة وعدم فرض القيود بسبب حالات الإصابة".